السيف الدمشقي وروسيا والرياح الصفراء
لؤي توفيق حسن *
لم يعد للجيب الذي يسيطر عليه الأرهابيون في الغوطة الشرقية قيمة استراتيجية وهو محاصر لاسبيل للوصول إليه بعد سقوط امتداداته من مواقع تشكل عصب الحياة له مثل جبال القلمون والبادية. لا أهمية عسكرية لهذا الجيب سوى انه صندوق بريدي تبعث منه السعودية وقطر برسائلهما السياسية بشكل قذائف من مدافع الهاون تستهدف أحياء العاصمة دمشق للضغط على النظام بكل ما يحمل هذا من ارباكات ومن أثقال معنوية على السلطة.
بين الأمس واليوم
لم يكن بوسع القوات المسلحة السورية حتى وقت قريب ان تتعامل مع هذا الجيب لعدة أسباب أبرزها على الأطلاق انها كانت موزعة على ما يربو على الف موقع عسكري من البادية حتى ريف اللاذقية والمناطق المتاخمة للحدود اللبنانية، ومن اقصى الجنوب درعا والسويداء والجولان إلى حلب، وكانت معركة هذه الأخيرة أم المعارك، مشكلةً مفصلاً غير وجهة الحرب في سوريا كما نعلم. كان هذا الجيب فيما مضى جزء من جبهة تحيط بدمشق فارضة عليها طوقاً إلا من بعض الممرات. لم يكن يومها قد حدث التدخل الروسي يوم شرع الجيش السوري ووحدات الدفاع الشعبي مع الحلفاء من المقاومة اللبنانية في صد القوات التي تستهدف العاصمة دمشق لإسقاطها، جاء ذلك في قتال مضنٍ واستبسال تكسرت على صخرته كل محاولات الأختراق وظلت الحياة في العاصمة دمشق تسير سيراً مقبولاً بالقياس لما يكون عليه حال المدن المحاصرة ! .. ومع هذه الظروف القاسية جرى التدرج نحو الهجوم على مناطق بعينها لتطهيرها وبالتالي تفكيك هذا الطوق المحيط بدمشق، وقد انجز في هذا الكثير؛ بعض المناطق سلمت للجيش السوري على اساس العفو عن المسلحين فيما درجت تسميته.
“تسوية اوضاع المسلحين”
هوجمت سوريا بجراد من التكفيرين الأرهابين. اتبعت المجموعات التكفيرية القتال بحسب العقيدة الصينية، اي الهجوم بمجاميع كبيرة وفي ذات الزمن على اكثر من موقع بطول البلاد وعرضها هذا متى أمكنهم، الأمر الذي يشتت قوى أي جيش، فكيف وهو مستهدف بسلاح المال من داخله تترافق مع حروب الميديا لتفكيك بنيته “بالأنشقاقات” أو الخيانات، ترافق هذا مع صعوبة رفده بقوى الاحتياط او تجديده من المكلفين بخدمة العلم بسبب صعوبة الانتقال او سقوط مناطق بيد الأرهابيين. كان صمود الجيش السوري في هذا الأضطراب القاتل امراً خارقاً للغاية عز ان تجد له نظير، ولو مر جيش الولايات المتحدة وهو من اعظم جيوش العالم بنفس الظرف لسقط في الأمتحان وتشظت امريكا بالكامل !!، فيما كان تماسك مؤسسات الدولة السورية حالة غير مسبوقة قياساً بالظرف غير الطبيعي الذي تعرضت له!، مثالها الأبرز حلب التي بقيت مؤسسات الدولة تعمل فيها بالرغم من القذائف والحصار. وظل الضبط والربط بين الأطراف في النواحي التي لم تسقط عسكريا بيد المعارضة ومركز المحافظة قائما، وكذلك حال الأخيرة مع السلطة المركزية في العاصمة دمشق.. وبالرغم من اجتياحات ما يسمى بوحدات الشعب الكردي للعديد من القرى العربية شمال شرق الفرات إلا أن الدولة ما زالت موجودة في مناطق نائية كالحسكة، والمتتبع لأخبار هذه المحافظة يلفته سير الحياة فيها بثقة، منها على سبيل المثال نشاطات مديرية الثقافة فيها بفعاليات عدة بمناسبة ثورة 8 أذار ويوم المرأة العالمي، فيما يواصل محافظها جايز الموسى عمله في متابعة مؤسسات الدولة التي تعمل بانتظام. هذا العصب السوري العميق الذي ابقى دفق الحياة في دولته باقية صامدةً رغم النوائب، إلى جانب شبكة تحالفاته الإقليمية، جعل من سوريا في نظر موسكو حصانا يكسبها الشوط في شرق المتوسط، او تخترق عبره سلسلة التراجعات التي ضربت حضورها وهيبتها، وبحد أدنى من التكاليف كونها غير مضطرة لتقاتل بقواتها على الأرض؛ كل ما عليها ان تسنّ من نصل السيف الدمشقي من فولاذ، وعليه باتت احوج لسوريا لأعتبارات استراتيجية سنأتي على ذكرها فيما بعد. هذه الميزة في سوريا حليفة موسكو لم تتوفر لامريكا على الساحة السورية وإلى ما يمكن ان تعتد به، هذا هو حالها من قبل والان مع صنيعتها المسمى “جيش سوريا الديمقراطية” !!.
مرة أخرى هذا العصب السوري العميق الجذور يحتاج لوقفة طويلة من التأمل وهو جدير بدراسة اصحاب الاختصاصات يوما ما.
التدخل الروسي
قبل ثلاث سنوات وبالتحديد كانون الثاني/ يناير 2015 كتبنا في هذا الموقع مقالنا بعنوان: “الحل المعلق في سوريا أو تكسر موسكو قواعد اللعبة “. كان لابد ان تكسرها وقد عبر عن هذا الرئيس فلاديميير بوتين بقوله الدفاع عن دمشق يساوي الدفاع عن موسكو، ولا بد ان يفعلها بعد ان احكم الغرب محاصرة روسيا من جمهوريات البلطيق وبولونيا حتى بلغاريا. ولم يعد بوسعه إلا ان يتدخل بعد أن أخرجه الغرب من اوكرانيا وقبلها من جورجيا. وكان مضطراً أن يفعلها فيما العديد من المقاطعات في روسيا الاتحادية تشكل خزانا يمد بالرجال الحرب في سوريا، أي ان الحرب سترتد إليه في خطوة لاحقة ما لم يتدارك الأمر، حيال هذا لم يعد كافيا دعم سوريا بالفيتو فجاء التدخل الروسي في وقته، وجاء في مكانه حيث “السيف الدمشقي” لا يلزمه بعد هذا الطعن إلا سنُّ نصله الحديدي. لقد شكل التدخل الروسي محطة في سير العمليات العسكرية وبفضله انتقلت القوات العربية السورية على الأرض إلى الهجوم مدعومة بحلفائها. بالأمس في حلب وتدمر والبادية وغيرهم وغيرهم والأن في الغوطة الشرقية. وهنا كان المتوقع ان يحسم الأمر بشكل اسرع دون التوقف على التهويل الأمريكي ومناحة الغرب على السكان المحلين فيما الأولى لو كانوا حريصين على هؤلاء ان يضغطوا على الفصائل المسلحة لأطلاق سراحهم وهم الرهائن حيث بين احيائهم وفوق سطوح مبانيهم تزرع مدافعها ومخازن ذخيرتها وقناصيها!. ولقد اتضح ذلك جليا بمنع هذه الفصائل خروج الناس عبر الممرات الآمنة التي حددها الجيش السوري. الأن تتبع القوات السورية تكتيك القضم البطيء وقد تمكنت من شق الغوطة إلى شقين معزولين عن بعضهما وبما يؤدي لتسهيل سقوطها في بحر شهر كما هو متوقع. يترافق هذا مع ضغوطات سياسية بواسطة روسية لسحب المسلحين مع عوائلهم إلى مناطق يختارونها وهي إما إلى ادلب التي تحولت إلى “حاوية” للأرهاب، أو في حالة الغوطة الأنسحاب نحو جنوب درعا الجيب المتبقي هناك للمسلحين!. وبقدر ما يحمل هذا الحل ايجابات لجهة حقن الدماء إلا انه ينقل المشكلة إلى مكان أخر بل ويزيد من شأنها حيث يرفده بالمزيد من المسلحين ما يطرح اسئلة عديدة وقلقة تتعاظم بحجم عفرين وادلب وشرق الفرات والجيب الإسرائيلي في الجولان، والصمت المريب حيال تهويد القدس يتزامن مع تنسيق عربي مع الكيان الصهيوني تحت الطاولة، وفوقها في عقود الغاز التي ابرمتها مصر مع الكيان الغاصب وتتريك منظم بالكامل لمناطق سورية احتلتها تركيا في اقليم عفرين والحبل على الجرار… هذا كله يذكرني بقول لهيثم مناع المعارض السوري القريب من موسكو: “هنالك فارق في المنسوب بين المعلن وبين ما يجري تحت الطاولة “. !!
العهد