مزحة القرن.
سمير الفزاع
من الحياة الى الثلاجة مباشرة، لا مشاهد للجريمة، ولا صور أو وصف للجاني، وحتماً غياب ملفت لسلاح الجريمة… لم نرى أحد من أبناء الربيع العربي على المنصة، كما لم نرى أحد من ضحايا هذا الربيع عليها. المطلوب أن يبقى فضاء المنطقة مسكون بهياكل بشريّة تجمعت كبيوت النمل خوفاً وقهراً وجوعاً، وبقايا خيم، وأطلال حكومات على المسرح بإنتظار الصفقة الكبرى، الجريمة الكبرى: هذه الهياكل والخيم والحكومات لن تخرج من ثلاجة التاريخ إلا للتوقيع على صفقة بيع الجغرافيا، بيع التراب والطين، بيع الإنسان الهوية التاريخ الحضارة الحق المنطق مهبط السماء ومعارج الأرض إليها… وعندها فقط قد يصبحون عبء ثقيل على الشاري. ما الفائدة من هيكل عظمي بين بشر يَنتقلون بسرعة الصاروخ، وأي فرصة لخيمة وبعير ودرب قافلة وزوادة قواد مع ناطحات السحاب والقطارات السريعة وخطوط الغاز والنفط والبعد التكنولوجي الخامس في تاريخ البشر، وما هو مبرر الحفاظ على حكومات باعت وتمرغت واتسخت وتفسخ جلد وجهها حتى بان العظم، ولماذا تبقى الرسالات والرسل والكتب المقدسة بين يدي من كفر بالله والرسالات والرسل؟!. ألا ترون كيف يتقيأ الحكام جلدهم وشحمهم وكرامتهم وشعوبهم وثرواتهم وبيوت الله في أرض أسلمهم الغرب مقاليد حكمها… يتقيأونها قرفاً منها وزهداً فيها؟!… هل يعلمون أنهم بدونها بلا وزن وبلا قيمة.
العمل الذي بدأت به داعش والنصرة وفصائل الربيع العربي المسلحة حتى النخاع والجاهليّة حتى الثمالة، كوماندوز العالم الحُر، سيكمله سماسرة الدم والأرض والعرض… لمسة رقيقة في البحرين، أرادوها أجمل من فلسطين، إسمها ماري إيفانكا ترامب، تنتقل بخفة على المسرح، تضرب بأكعاب قدميها لحى وشوارب وكرامات، وتخنق أحلام وأيام ومديات، أنستهم القضية وذكرتهم بحكايا ألف ليلة وليلة، والثانية ستكون في جدة، والثالثة في دبي، والرابعة في الدرعية… إنّه زمن “الدرعيّة”… هذه أمنياتهم، وربما أحلامهم التي تهرب بهم من كوابيسهم، واسألوا الزمان عن قصة الدرعية.
على التراب ترسم الحدود والخرائط، وعليه تقام الدول وتنهض الحضارات، وفيه يتراكم الوعي والهوية والوجدان، وبه تتلون المدن والشعوب بصباغ سيصبح وسمها المميز… وعندما يتعثر زحف المال، ويتعذر تدفق الطاقة، وتترنح المشاريع الجيوسياسية، وتُهدد الأفكار والأساطير والرؤى في انتشارها وتأرضها… يصير التراب مصدر تهديد، والشعوب الحرة عَبدة أصنام، والجماهير المُقاتلة مرتزقة الأرصفة وهمج، والقادة الكبار طغاة العصر وعشاق الكرسي، والدول المقاومة عَقبات وحواجز، والحضارات الحيّة النابضة منبع تخلف وإرهاب، والوعي والهوية والوجدان مفردات من خشب أو طين… وأنّه آن أوان تجاوزها والقفز من فوقها أو من تحتها لا فرق -من فوقها ستكون المسخ الذي يُرديهِ “دارون” بنشوئه وترقيه، ومن تحتها ستكون كمن يحفر بمسمار في كهف ما قبل الأنسنة في زمن النانو والثورة التكنولوجية الخامسة- المهم، أن تَخلع أو تُخلع من دمك ولحمك وعقلك وذاكرتك وأحلامك وشِعرك وآثارك وحبرك ومكتباتك… لتكون طين بلا تراب، أو عجين بلا ملح، أو ساقية بلا ماء… عندها ستكون سهل التشكيل والتذليل والتوضيب والتحميل، سلعة، عبدٌ جديد من أرض تكره العبودية والعبيد لأرض قام بنيانها، وانتصب ظهرها، وأثرت مُدنها على العبودية والعبيد… قاهرة ناصر: قيدتها كامب ديفيد وجمعٌ من “شمّامي” النفط والغاز. وبغداد النخوة: تبحث عن هويتها التي دفنها صدام وبوش وآل سعود والمستعربون تحت جحيم أطنان من “اليورانيوم المنضب” وسيل هادر من الظلم. ودمشق الشام، آه يا دمشق الشام، لم يبقى إلاك، لولاك لكُنا سلعة رخيصة في سوق النخاسة والسبي الأممي، ولولاك لكنا على بعد خطوة من عصر التلمود والمحافظين والصهاينة الجدد. هم وهؤلاء، يسعون اليوم لأن نبلُغ الفصل قبل الأخير، حيث لن يقولوا لك اخلع نعليك؛ بل فاخلع رأسك فأنت في زمن “اسرائيل” الكبرى… عندها، وبعد أن تخلع ما تبقى من رأسك، سيبدأ الفصل الختامي… فصل حساب بلا خواتيم.
لكنها دمشق، العرين الأخير، والفصل الأخير، والقافية التي لا شعر بدونها، ولا سلام بلا إمضاءها، ولا حرب بدون لأمتها، ولا نصر بلا رايتها… توجعنا غارة اللقيط، نعم. تؤذينا شماتة الجار، بلا. يمزقنا غدر الشقيق، كيف لا… لكننا… أمناء أمة، وحراس تاريخ، وسدنة حضارة، وبقية قوم، والكتيبة الأولى في جيش الحق والنصر، جيش من تبقى من أمتنا، جيش جرحنا، جيش بشار حافظ الأسد، جيش سورية ولبنان والأردن وفلسطين والعراق واليمن… وكل أرض نثرنا فوقها شيء من عشقنا الأثير.