يوميات مهاجرين في شمال فرنسا.. بين سطوة المهربين وعدم الاستقرار
دانا البوز
تقف امرأة خمسينية في مقدمة صف يضم عشرات الأشخاص، تنتظر دورها للحصول على وجبة الفطور المكونة من شطيرة مربى وكوبا من الشاي الساخن. تبدو سارحة في أفكارها والتعب واضحا على وجهها، يقاطع بكاء طفلها رحلتها الذهنية، تربّت على كتفه لتأخذ حاجتها من الطعام وتختفي عن المشهد الرتيب.
بأجواء هادئة، يصطف الشباب والنساء بالقرب من صالة رياضية تحوّلت إلى منزلهم المؤقت، منهم من مضى على وجوده بضعة أسابيع ومنهم من تجاوز الـ10 أشهر، جميعهم يعتبرون مدينة غراند سانت شمال فرنسا نقطة انطلاق رحلتهم إلى الأراضي البريطانية.
“حاولت عبور بحر المانش سبعة مرات، أنا وأطفالي الخمسة، الوضع كان صعبا وفشلنا في الوصول إلى الأراضي البريطانية، لكننا سنحاول من جديد، ربما بطريقة أخرى. علينا إيجاد حل لأننا في غاية التعب والإرهاق”، تقول المرأة الأربعينية القادمة من بغداد.
وبينما تشرح سعاد لمهاجر نيوز واقع معيشتهم اليومي الصعب، تجلس جارتها الجديدة في الخيمة المجاورة مع زوجها وطفليها، “نحن جئنا إلى هنا بعد أن تم رفض طلب لجوئنا في اليونان. هربنا من السليمانية في العراق بحثا عن ملجئ آمن، لكننا فوجئنا بواقع اللجوء في أوروبا. لذلك قررنا خوض التجربة الأخيرة للعبور إلى بريطانيا، أملا بتأمين مستقبل أفضل لأطفالنا”.
تمضي سعاد وجارتها لياليهما في باحة الصالة الرياضية التي افترشها مئات المهاجرين بخيم صغيرة ملونة. صغار وكبار، نساء ورجال، جميعهم يعيشون داخل تلك الخيم، أغلبهم من الأكراد العراقيين ويصل عددهم الإجمالي إلى 800 مهاجر.
“الوقت طويل هنا، يمضي اليوم ببطء شديد”، يقول رجل خمسيني بينما يحاول إشعال الحطب لتحضير الشاي، فالملل سيد الموقف والنقاش يتكرر على ألسنة الجميع، “ما وضع الحدود اليوم؟ هل توجد حراسة مشددة؟ هل نجحت محاولات أولئك بالعبور؟”.
هذه الصالة الرياضية تم افتتاحها بناء على قرار عمدة غراند سانت منذ عامين للتصدي لموجة البرد التي شهدتها المنطقة. الصالة في الأساس كانت مخصصة لاستيعاب 300 مهاجر، إلا أنه مع استمرار توافد المهاجرين إلى المنطقة، تحولت باحة الصالة التي كانت تستخدم كملعب لكرة السلة سابقا إلى ساحة ملونة أقيم عليها عشرات الخيم لتزيد أعداد المقيمين في الخارج عن الذين في الداخل.
“أريد أن أصبح محاميا في المستقبل لأدافع عن قضيتي وقضية أهلي”، بلهجة واثقة وبكلمات البالغين يبدأ أسعد برواية قصته لمهاجر نيوز، “هربت مع عائلتي من الكويت، لم نتمتع بحقوقنا الأساسية هناك”، فالطفل الذي يبلغ 12 عاما، ينتمي إلى “البدون”، أو ما يسمى بـ”عديمي الجنسية”، وهم فئة سكانية تعيش في الكويت ولا تمتلك أي جنسية ويعانون من حرمان الخدمات الأولية والحقوق المدنية.
يعيش أسعد مع والده وشقيقه في المركز منذ بضعة أشهر، “للأسف، افترقت عن والدتي وباقي أشقائي منذ نحو ثلاثة أشهر. ففي إحدى محاولاتنا لعبور الحدود، نجح أخوتي ووالدتي بالاختباء في إحدى الشاحنات وتمكنوا من عبور الحدود، إلا أن الشرطة أوفقتني مع أخي ووالدي وعدنا إلى هذا المركز. أتكلم مع والدتي عبر الهاتف ولا أطيق الانتظار للالتحاق بهم. سنكرر محاولاتنا في عبور الحدود حتى ننجح”.
تركت عائلة أسعد الكويت منذ نحو أربعة سنوات، وبعد رحلة هجرة طويلة وصلوا إلى الدنمارك حيث رفض طلب لجوئهم وتم إصدار قرار طرد بحقهم. قررت العائلة الذهاب إلى بريطانيا علّها تستطيع بدء حياة جديدة.
وتوجهت أغلب العائلات إلى هذا المركز تجنبا للإقامة في المخيمات العشوائية على أطراف المدينة في غابة بويتوك والتي تتعرض باستمرار إلى التفكيك من قبل السلطات.
قواعد المهربين
بينما يمضي هؤلاء المهاجرين وقتهم بين التخطيط لرحلة العبور أثناء الليل وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي على هواتفهم المحمولة، أجواء أخرى ونظام مختلف يسود في أحد أقسام الباحة الخلفية للمركز.
نراجيل وطعام شعبي ومشروبات تقليدية، مشهد قد يبدو وكأنه في أحد الأسواق الشعبية في العراق، إلا أن الأجواء هنا لا تخلو من التوتر وتفرض على المقيمين في المركز الخضوع لتعليمات المهربين.
وفقا لشهادات المهاجرين المقيمين في الصالة، يتمركز المهربون في هذا المكان، ويفرضون “تسعيرة التهريب”.
الكثير من الشبهات تدور حول هذه الأعمال التجارية الصغيرة وسيطرة المهربين عليها.
بتحفظ شديد وصوت منخفض، يروي لنا أحد المهاجرين تفاصيل العملية “الدفع لا يتم هنا، وإنما هنا تحصل المفاوضات”. ويدير المهربون مكاتب عديدة في مدن كأربيل والسليمانية في كردستان العراق إضافة إلى مكاتب أخرى في بريطانيا.
للمزيد: مهربون يحاولون السيطرة على أحد مراكز إيواء المهاجرين شمال فرنسا
“تبلغ التكلفة للشخص الواحد حوالي 10 آلاف جنيه إسترليني. الدفع حصرا بالباوند”، ويتم دفع هذا المبلغ لأحد الوسطاء في المكاتب، وبعد أن يتم التأكد من وضع المبلغ المطلوب، يقترح المهرب على الشخص طريقة التهريب، إما عن طريق القوارب المطاطية لعبور المانش أو عبر الشاحنات المتجهة إلى المملكة المتحدة.
ولتأمين المبلغ المالي المطلوب من قبل المهرب، توجد طريقة أخرى قد تكون عبر تقديم خدمات معينة للمهربين داخل المركز والعمل لصالحهم في الأكشاك التجارية الصغيرة.
تواجد المهربين لا يغيب كذلك عن أعين السلطات. وكانت منظمة “سلام” قد أشارت إلى تعرض مهاجرين من جنسيات سودانية وباكستانية لتهديدات من قبل “المافيا الكردية” في المركز وفقا لإحدى الموظفات في البلدية، تحفظت على ذكر اسمها، لكنها لم تتردد في الكشف عن الدور السلبي الذي يلعبه المهربون في تجمعات المهاجرين. “قبل ثلاث سنوات، في المخيم الذي كان قائما في غابة غراند سينث، اضطررنا لتعليق ملصقات بلغة الباشتون لنطلع المهاجرين على أن استخدام المراحيض مجاني”، وذلك بعد أن قام المهربون بتقاضي مبالغ مالية من المهاجرين مقابل استخدام المراحيض.
عمدة غراند سانت مارتيال بيرت يقول لمهاجر نيوز “حاليا في صالة الألعاب الرياضية ، لا يمكننا التظاهر بعدم رؤية الأعمال غير القانونية التي تحصل في الجزء الخلفي من المبنى. إنه أمر لا يطاق. خاصة أننا نعلم أن بعض المهاجرين الذين يعملون في هذه الأماكن يقعون تحت تهديد شبكات المهربين”. ويعتبر العمدة الجديد أن الحل يكمن في إخلاء المركز بهدف حماية هؤلاء الأشخاص، لكن شكوك عديدة تثار حول هذا الإجراء والتشرد الذي قد يلحق بالعائلات والشباب.
مهاجر نيوز