المنطقة على عتبة تغييرات كبرى.. هل سنشهد هذا اليوم؟!.
سمير الفزاع
من قال بان الجغرافيا لا تشيخ كما الانسان وكما الزمن… رأس الرجاء الصالح، مَثّلَ فتحاً تاريخياً في حينه، فتضاعفت التجارة وتلاقح الثقافات والحضارات… تماماً كما فتح أبواباً واسعة لغزو واستعمار جديدين. إلا ان “راس صالح” شاب، وفقد الكثير من قيمته عندما شق مئات ألاف المصريين قناة السويس، الأمر الذي منح مصر نيلاً جديداً، وحضوراً استثنائياً، وحلق بـ”قيمتها” الجيوسياسية بعد هذه الإضافة النوعية الكبرى… وزاد في ذات الوقت من عدد أعدائها، وشراستهم في السعي لامتلاكها والسيطرة عليها أو امتلاك قرارها والسيطرة عليه في الحدّ الأدنى. راس الرجاء الصالح، الطريق البحري الذي حظي بقيمة استثنائية حينه، اكتشف بفعل الخراب الذي كان يلحق بطريق الحرير جزئيّاً وكليّاً، وتنامي النزعة الإستعماريّة الغربيّة مستفيدة من عدة اختراعات واكتشافات علمية مكنتها من الإبحار بعيداً، والحاجة للأسواق ومصادر المواد الخام، وروح المغامرة… فجاءت قناة السويس لتختصر الخطوط البحرية الطويلة التي يقدمها رأس الرجاء الصالح، خصوصاً وقد نشأت امبراطوريات كبرى بحرية الطابع، تتماشى وآليات السيطرة ومصادر وطرق نقل وتوزيع وتبادل مفردات الثروة، وبناء الدولة الإمبراطورية… البحر. ولكن لم تكف العيون والآذان عن مراقبة دروب وممرات ومحطات… طريق الحرير.
اليوم، ومع عودة رنين أجراس إبل وبغال طريق الحرير مجدداً، بدأ صراخ الإمبراطوريات البحريّة الطابع –بريطانيا، أمريكا، فرنسا…- يعلو مهدداَ… و”راس صالح” يشيب أكثر وأكثر، والسويس بدأت تشعر بالهرم والتهديد المتزايد بفقدان القيمة الاستراتيجية الحاكمة التي كسبتها وأكسبتها لمصر، خصوصاً، وأن هناك بيئة متكاملة لنشؤ عالم جديد يُزاحم العالم القديم، ليكون مركز هذا العالم قريباً بكل تأكيد. لكن “شرايين” هذا العالم –أوراسيا وغرب آسيا- البرّ وطرقه وممراته لا البحار والمحيطات، وعنوانها الأبرز طريق الحرير (الحزام والطريق)، ما يعني تراجعاً في قيمة الممرات البحرية، ولكن ليس الإطلالات البحريّة المميزة، والتي سيكون لها دور مهم في بناء عالم الغد، مثل الخليج العربي، شرق المتوسط، البحر الأسود، قزوين… . والعنصر الرئيس الثاني في هذا العالم الجديد، أن نقل الطاقة من المنتجين للمستهلكين سيكون عبر شبكة جبارة من الأنابيب… ومن الأمثلة على هذا المكون ومخاطره على قوى العالم القديم، محاولة واشنطن –المتحكمة بأكبر نسبة من قرارات الطاقة في العالم- وعبر أوكرانيا تعطيل تشكل هذا العالم، ولكنها خسرت الرهان بأسرع مما توقعت بعد مدّ خط تحت البحر من روسيا إلى المانيا “نورث ستريم 2″، واندماج تركيا في مشروع “السيل التركي”. وكذلك تلبية احتياجات الصين من الغاز بصفقة تاريخية بلغت 400 مليار دولار، إذ وقعت شركة “غازبروم” الروسية وشركة النفط والغاز الوطنية الصينية “CNPC”الأربعاء، 21/5/2014، على توريد 38 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الروسي من شرق سيبيريا إلى الصين لمدة ثلاثين عاما… .
صارت أوروبا تتحدث عن حاجتها إلى جيش أوروبي، وتحالف بحري أوروبي بعيداً عن واشنطن، وأمريكا بقائد اسطولها تكابد الصين على بحرها الأصفر، وهو الذي قال قبل أيام: سنوات قليلة وسنفقد تفوقنا على الاسطول الصيني. الجيش الأمريكي والجيوش الغربية عموماً، في تناقص مستمر، وفي تآكل مستمر… بعد أن أغرتهم مقولة الوصول إلى “نهاية التاريخ” بالركون للراحة والغرور، وأغراهم “النصر” بالقبض على أعناق ورؤوس وعقول شعوبهم قبل الآخرين، وبعد أن مزقت الشركات العابرة للقومية ما تبقى من روح وطنية وانتماء واستعداد للتضحية بين ظهرانيهم، وبعد أن وضعوا مصيرهم بين يدي حروب الجيل الخامس والشركات الأمنية بدلاً من تكنولوجيا الجيل الخامس… بينما جيوش دول مثل: الصين وروسيا والهند وإيران وسورية تزداد عدداً وعدة… وتحديداً عدداً، وصرنا نسمع بشكل شبه يومي عبارات من كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين الامريكيين والغربيين، مثل: فقدنا تفوقنا التكنولوجي أمام روسيا، وخصوصاً في مجال الصواريخ وتكنولوجيا الطيران والحرب الالكترونية… ولأي غرض تعد الصين هذا الجيش الضخم، خمسة ملايين انسان… ألم يقل “ترامب”:لو اتصلت بشركة “غوغل” لرد عليك شخص صيني؟!. حتى أن أحد الخبراء الغربيين قال ذات مرة: إن الدولة الوحيدة في العالم القادرة على خوض معركة كبرى، والنهوض مجدداً، هي الصين.
هذا التغييرات الجذرية في خريطة العالم الجيوسياسية، كان لها، وسيكون له تداعيات كبرى على شكل العالم… ستزداد قيمة موانيء وبحار وشعوب ودول… على حساب أخرى. وستبرز ثقافات ومدن ولغات وأنماط حياة وإنتاج واستهلاك… على حساب أخرى. ستنتقل مراكز الثقل المالي والإقتصادي وشركات التأمين والتكنولوجيا والبحوث والتطوير… من طرف في هذا العالم لآخر. ستنطفئ صراعات وتنشأ أخرى، وعلى الأغلب ستندثر دول وكيانات وأنظمة لتنشأ أخرى… بعضها سيندثر لتغير، وربما إنقلاب موازين القوى. وبعضها الآخر، لأن هذه الكيانات والأنظمة لن تكون قادرة على العيش ضمن هذا التحول الكبير في شكل العالم ومعاييره، وبعضها سيتغير لاستباق التغيير… ومن الأمثلة على هذا التغيير المفترض: أن تفقد دول عربية واسرائيل الكثير من قيمتهم الجيوسياسية، إن لم يكن معظمها، لصالح سورية والعراق وإيران.
وكما ساهم هؤلاء الثلاثة، سورية والعراق وإيران، وحلفائهم الكبار في محور المقاومة، بإسقاط النظام الدولي السابق وبناء آخر جديد… سيكون له الكلمة الأولى في ترتيب وإدارة شؤون الإقليم، وكلمة مسموعة على مستوى العالم.
من هنا، يحق لنا أن نسترجع بالكثير من الفخر واليقين، عبارات بتنا نفهمها بشكل أفضل، مثل: استراتيجية البحار الخمسة، ولقد شطبنا أوروبا من الخارطة وسنتجه شرقاً، بطل العرب، والصلاة القريبة في القدس… ولكن يبقى السؤال الأكبر معلقاً وجلّ إجابته في رحم الغد: هل سيتم هذا التحول التاريخي دون معركة دموية تاريخية تنهي نظاماً دوليّاً لتنشئ آخر؟!.