في «أرض الأحلام».. مهاجرون يعملون كفئران تجارب مقابل البقاء على قيد الحياة
تُعرف الولايات المتحدة الأمريكية باسم «أرض الأحلام»، لذلك يحاول الملايين الهجرة إليها سنوياً، لكن الكثير منهم يضطر للقيام بأمور ربما لم يكن ليفكر فيها لو لم يصل أرض الأحلام، والحديث هنا عن تأجير الجسد مقابل الطعام أو توفير أساسيات الحياة للأسرة، فما هي قصة مَن يضطرون للعمل كفئران تجارب؟
موقع بي بي سي موندو التابع لهيئة الإذاعة البريطانية نشر تقريراً مفصلاً عن القصة، بدأه بسؤال: كيف يمكن العثور على علاج للسرطان أو الإيدز إذا لم يكن هناك أشخاص على استعداد للخضوع لعلاج تجريبي؟ ومَن هم هؤلاء المتطوعون؟ ما الذي يدفعهم للقيام بذلك؟ وما الذي يتعرضون له حقاً؟
تُجرى كل عام آلاف الدراسات السريرية مدفوعة الأجر في الولايات المتحدة. وثمة عدد كبير من المتطوعين الراغبين في المشاركة في هذه التجارب، بعضهم مهاجرون وبعضهم من ذوي الدخل المنخفض الذين يبحثون عن طرق لدفع النفقات الأساسية مثل المسكن والغذاء ووسائل النقل.
إذ إن شركات الأدوية الأمريكية الكبرى -المعروفة باسم Big Pharma- لا يمكنها بيع منتجاتها إذا لم تُختبر فاعليتها وسلامتها على البشر، فينبغي لها أيضاً الحصول على الضوء الأخضر من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، وبفضل هذه الدراسات، أحرز العلم تقدماً مهماً في علاج جميع أنواع الأمراض، مما أدى إلى إنقاذ حياة ملايين الأشخاص حول العالم.
مخاطر لا أحد يعرف طبيعتها
لكن هذه الدراسات على البشر تحمل مخاطر أيضاً، حتى إذا لم تتعرض لها «فئران التجارب» البشرية هذه. فبينما تحمل دراسات المرحلة الأولى خطورة أكبر (لأن المتطوعين هم أول أشخاص يجربون هذه العقاقير أو العلاجات)، تنطوي المراحل الثانية والثالثة والرابعة عادةً على ما هو أكثر من بعض الآثار الجانبية، مثل الغثيان وفقدان الشعر، أو الطفح الجلدي أو الرؤية المشوشة، وعلى أي حال، قبل المشاركة في مثل هذه التجارب، يوصَى بالتشاور مع أخصائي طبي.
أزمات مادية ضاغطة
تعرض السطور التالية شهادة المواطن الكوبي البالغ من العمر 49 عاماً، الذي سنطلق عليه اسم «ل»، والذي هاجر إلى ميامي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2013. ففي نفس عام هجرته، التحق الرجل متطوعاً بأول دراسة له بسبب الأزمات المادية الشديدة التي كان يمر بها. ومنذ ذلك الحين سافر إلى الجانب الآخر من البلاد، من عيادة إلى أخرى، وشارك في جميع أنواع الدراسات السريرية مقابل المال. إليكم شهادته:
هذه هي فلسفتي. لا تخف جداً من الموت، ولا تتعلق كثيراً بالحياة. إذا حدث لي شيء بسبب شيء كان بإرادتي؛ سأقول إذاً: اللعنة، لقد قُضي عليّ.
ربما عندما أموت في السرير، سوف يؤسفني أنني وضعت صحتي في خطر لكسب 6000 دولار في 15 يوماً. ولكن أين تكسب الكثير من المال في مثل هذا الوقت القصير في ميامي؟
عند أول دراسة سريرية خضعت لها، كنت أمرُّ بظروف قاسية. عشت وحيداً في غرفة مساحتها 16 متراً مربعاً داخل منزل مقطورة. وكنت أعمل صحفياً في جريدة رقمية أعلنت إفلاسها. كان معي 250 دولاراً في جيبي ولم أمتلك مبلغ الإيجار. وكانت لي صديقة كوبية تخضع لدراسات سريرية مدفوعة الأجر منذ حوالي ست سنوات، كانت تكسب عيشها بهذه الطريقة لأنها لم تحب العمل لدى الأمريكيين. قالت لي: «الأمريكيون مستغلون» .
لم يكن لصديقتي منزل، بل كانت تعيش متنقلة من مستشفى إلى مستشفى، وتخضع لدراسة كل شهر تقريباً. على سبيل المثال، إذا استمرت الدراسة 20 يوماً، فهي تعيش هذه الأيام في المستشفى. وعندما تغادر، كانت تمكث الأيام العشرة المتبقية من الشهر في منزل أحد الأقارب.
كانوا يدفعون لها جيداً. وأخبرتني أنها يمكنها في بعض الأحيان كسب 6000 دولار لمدة 15 يوماً فقط من احتجازها. كنت أنتقدها وسخرت منها. قلت لها إنها فأر تجارب. لكن ما يحدث عادة في الحياة، أن تأتي أوقاتاً تتلقى فيها صفعة قوية تجعلك تقول: من أين أحصل على المال؟ تذكرت صديقي واتصلت بها. أعطتني عنوان عيادة في مدينة ميرامار بولاية فلوريدا.
أقراص الدواء «لا تفعل شيئاً»
أجريت في هذه العيادة أول دراسة لي في عام 2013. وكان هناك 180 شخصاً معظمهم تقريباً من المهاجرين الكوبيين الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة. ولم يكن هناك أمريكي واحد. كنت أنا نفسي هاجرت للتوّ إلى جنوب فلوريدا. فقد رحلت من كوبا إلى إسبانيا، ومن إسبانيا إلى كندا، وهناك عبرت الحدود إلى الولايات المتحدة.
دفعت الدراسة 2800 دولار أمريكي لكل متطوع لمدة عشرة أيام من الانضمام.
قبل ذلك بأيام قليلة قدمت إلى العيادة بطاقة هويتي ورقم الضمان الاجتماعي، وسجلوني في قاعدة البيانات وأخبروني أنهم سوف يتصلون بي. وبعد يومين أو ثلاثة أيام اتصلوا بي. كانت الدراسة عبارة عن تناول قرص عن طريق الفم كان على وشك أن يصدر في الأسواق. أخبرتني المرأة على الهاتف بأن الحبوب «لا تفعل شيئاً»، ودائماً يقال هذا للمنضمين الجدد، وعادة ما يحذرونك من أن الدواء قد يكون سيئاً.
آثار جانبية
في أفضل الأحوال يخبرونك بالآثار الجانبية مثل الحكة أو الإسهال أو الغثيان أو الصداع. وعندما تذهب لأول مرة لا يهتمون لشأنك، لأنهم لا يعرفونك.
لكن عندما ذهبت إلى العيادة نفسها عدة مرات وتتعامل معها، تنصحك مرات عديدة بعدم الخضوع لأي دواء محدد إذا كان هناك أشخاص عانوا من القيء أو الإغماء في المراحل السابقة.
دخلت العيادة قبل أيام قليلة من بدء الدراسة. وهناك يوضحون لك عدد عمليات سحب الدم التي سيجرونها إجمالاً، ويتأكدون من أنك لم تتناول المخدرات أو الكحول قبل الدخول. يُعرف اليوم الذي تُعطى فيه الأقراص لأول مرة باسم «PK»، وهو اليوم الذي يسحبون فيه أكبر قدر من عينات الدم.
نزلاء سجون
قد يتم وخزك كل 15 دقيقة خلال أول أربع أو ست ساعات، لمعرفة تأثير الدواء على جسمك. وفي ظل عدم السماح لك بمغادرة المستشفى، فإن المتطوعين يشاهدون التلفزيون أو يلعبون الدومينو أو الشطرنج في أوقات فراغهم. ويلقى آخرون النكات والبذاءات ويشاركون قصصهم.
لا يُسمح بممارسة الجنس، والنساء ينمن منفصلات عن الرجال، ولا يمكنك أيضاً تناول أكثر من وجبات الإفطار والغداء والعشاء التي يقدمونها لك، وإلا فإنهم يخرجونك من العيادة ولا يدفعون لك المال.
جني المال
عندما انتهت الدراسة أعطوني الشيك وغادرت. شعرت بارتياح … ليس لأن الأمر قد انتهى، ولكن لأنني كنت أمتلك مالاً. كنت سعيداً أيضاً لأنه لم يحدث لي شيء عدا بعض الكدمات على ذراعيّ. كان هذا هو الأكثر إيلاماً، بالإضافة إلى حقيقة أنني اضطررت إلى بيع دمي للبقاء على قيد الحياة.
ذهبت إلى منزلي ودفعت الإيجار. كانت تكلفة غرفتي حوالي 500 دولار في الشهر. واشتريت الطعام ومنحني المبلغ المتبقي عدة أشهر من الإيجار. عندما أخبرت صديقتي، كانت سعيدة. وطالما عبرت لها عن امتناني لأنها منحتني «الضوء»؛ ففي هذه المدينة يصعب غالباً إيجاد طريقة لكسب المال.
في تلك الدراسة الأولى التقيت «نيكا». كانوا ينادونه كذلك لأنه كان من نيكاراغوا. اعتدتُ أن أسخر منه بسبب الندوب على ذراعيه، لأنه كان يوخز بالإبر لسنوات عديدة. كان يقول لي: «اسخر كما تشاء. إذا استمرت في هذا الأمر، سيكون لديك منها يوم ما أيضاً» . وهذا ما حدث بالفعل! (كان «ل» يقول ذلك بينما يكشف علامات في شكل نقاط على ذراعيه).
أخبرني نيكا بأنهم سيحتاجون في غضون أيام قليلة إلى متطوعين لدراسة أخرى في دايتونا. كانوا يدفعون 6390 دولاراً لمدة 18 يوماً. عندما يبلغ المرء هذا الحد، بعد 15 يوماً من الانتهاء من واحدة، يبدأ في البحث عن التالية.
في فبراير/شُباط 2014، شاركت في الدراسة الثانية. وقد كان قرصاً أيضاً. كانت تلك الدراسة جيدة لدرجة أن نيكا، الذي كان يعمل في هذا الأمر منذ أكثر من 15 عاماً، قال إنها أفضل ما خضع له.
في اليوم الأول أعطونا الأقراص في الساعة الثامنة صباحاً، وبين هذا الوقت وحتى العاشرة مساءً، سحبوا عينات الدم أربع مرات فقط. كانت بقية الأيام مجرد سحب عينات يومياً.
كان نيكا رجلاً طيّباً، لكن الندوب جعلته قبيحاً. كان يحب الفتيات الصغيرات وكان يحتفظ بصورة لفتاة تبلغ من العمر 18 عاماً. قال إنه يحبها وكانا سيتزوجان. كنت أود أن أقول: «نيكا، هذا لأنك تمتلك مالاً» .
شاركت لمدة خمس سنوات في الدراسات بمعدل ست أو سبع دراسات في السنة. خلال عام 2014 ونصف عام 2015، كنت أعول نفسي فقط بما كسبته في هذه العيادات. زرت فلوريدا، وأريزونا، وتكساس، وإلينوي، وويسكونسن. سافرت عبر الولايات المتحدة براً للذهاب من عيادة إلى أخرى.
في عام 2015 اجتمعتُ بزوجتي وانتقلت معها إلى منزلنا. أخبرتني زوجتي والكثير من الناس أن الدراسات السريرية تشكل خطراً على صحتي، وأنه ليست هناك حاجة للوصول إلى هذا الحدّ، وأن لديَّ القدرات لعمل أشياء أخرى، وأنه من الأفضل أن أحصل على 8.46 دولار أمريكي في الساعة.
يوجد في ميامي أشخاص يكسبون أموالاً جيدة، لكن هناك العديد من الأشخاص الآخرين الذين يعملون بالحد الأدنى للأجور ولا يحصلون حتى على 2000 دولار شهرياً.
يتعين على الأشخاص الذين يعملون للحصول على الحد الأدنى للأجور في مدينة كهذه العمل لأكثر من 40 ساعة في الأسبوع للعيش، وهذا أحد أسباب أنني واجهت صعوبة للتكيف هنا.
إذا وصلت إلى هذا البلد وأنت صبيّ تبلغ 14 أو 15 عاماً، فستكون أمامك حياة طويلة. لكنني وصلت وقد تجاوزت الـ 40.
في هذه المرحلة، ما تريده هو تسريع الأمور. ابحث عن اللحظة والمكان والشخص الذي يخبرك أن لديك المعرفة اللازمة للقيام بشيء ما. يحتاج المرء إلى التقدم بوتيرة أخرى. في جميع الأماكن التي عملت بها، أدرك رؤساء عملي أنني أعمل كثيراً، وأنني أعبر عن نفسي جيداً، وأنني متعلم جيّد، لكنني لم أحظَ بأي رخاء من قبل.
لهذا السبب أعتقد أن الدراسات تمثّل دعماً مالياً جيداً، وقد شاركت في تلك الدراسات الخاصة بالمرحلتين الثالثة أو الرابعة؛ فهي ليست خطيرة كما يُعتقد. على الرغم من أن زوجتي تعرف حالة رجل فقد إحدى عينيه.
وهناك حاجة أيضاً للأشخاص الذين يساعدون العلم في تجربة أدوية جديدة. أشعر بأنني ذو أهمية في هذا الصدد، لكن أكثر ما حفزني هو المال.
18 يوماً من الإسهال
في كل مرة أعود فيها من عيادة، أخبرتني زوجتي أنها كانت منزعجة قليلاً. وفقا لهاً، استمرت يومين أو ثلاثة أيام، على الرغم من أنني لم ألاحظ ذلك. وتوقفت صديقتي التي عرّفتني بهذا المجال لأنه، حسب قولها، كانت رائحة الدواء تنبعث من جلدها طوال الوقت، فقد كانت تخضع لدراسة شهرية على مدار سنوات عديدة.
أتذكر مرة خضعَت فيها لدراسة تركتها مصابة بنزلة برد وزكام (تهيج في الأنف) لعدة أشهر.. كانت خائفة لدرجة أنها توقفت مدة. أما أنا، فلم أذهب إلى دراسة حدث فيها مكروهاً لشخص ما. أجل، كان لدي أصدقاء فقدوا الوعي واضطروا إلى مغادرة الدراسة. إذا فقدت الوعي أو تقيأت الأقراص، فإنهم يخرجونك من الدراسة ويدفعون لك فقط مقابل الليلة التي قضيتها. وتحسُّباً لأي خطر، هناك دائماً طبيب أو ممرض على مقربة منك.
على الرغم من ذلك، شاركت في عام 2017 في دراسة في مدينة دالاس بولاية تكساس. ودفعوا لي 7000 دولار أمريكي لمدة 23 يوماً من الانضمام. عانيت خلالها من الإسهال لمدة 18 يوماً على الأقل. لم تكن دراسة سيئة، لأنهم سحبوا الدم مرتين فقط في اليوم. لكني أصبت بالكثير من الإسهال وعدت إلى المنزل نحيفاً للغاية.
لم أخف أبداً من الآثار الطويلة الأجل التي قد تسببها لي الأدوية التي خضعت لها، لكنني رفضت دراستين: الأولى لأن الدواء لم يُختبر على البشر من قبل وعند اختباره على الفئران تسبب في خفقان القلب والتهاب في الكبد، ولأنهم أيضاً عرضوا مبلغاً قليلاً للغاية، حوالي 4950 دولاراً أمريكياً لمدة 20 يوماً. لم يناسبني ذلك.
أما الأخرى، فرفضتها لأنهم سحبوا الكثير من الدماء. لم يكن المقابل قليلاً، لكن هذا كان أكثر من اللازم. فعندما تفقد الكثير من الدماء، ينخفض الهيموغلوبين كثيراً وبالتالي لا تُقبل في أي عيادة.
في العام الماضي، عانيت طوال الوقت تقريباً من انخفاض الهيموغلوبين. في كل مرة أجروا لي فحوصات طبية للدخول في دراسة، كانت نسبة الهيموغلوبين حوالي 12.8. ولكي تُقبل في عيادة، يجب أن يكون هذا الرقم أعلى من 13 في المتوسط. بعض الناس يعوّضون الهيموغلوبين بسرعة، وآخرون لا. وكنت ممن يتعافون ببطء شديد. لذلك توجب عليَّ في مرات عديدة تقوية نظامي الغذائي (تناولت الكثير من لحم البقر والبيض والسبانخ والقرنبيط) للدخول في الدراسة التالية.
اقرأ أيضا: تركيا تكشف عدد السوريين الحاصلين على الجنسية التركية
أهداف لا تتحقق
في البداية، كان لديَّ هدف ما مع كل دراسة. كانت أهدافاً صغيرة، وهي شراء سيارة أولاً، ثم جهاز حاسوب جديد، ثم القيام برحلة إلى أورلاندو مع زوجتي، والذهاب إلى المكسيك وكوستاريكا وإسبانيا. غير أننا في النهاية لم نذهب إلى العديد من تلك الأماكن، واشتريت السيارة.
من الخطأ الاعتقاد بأن كل مَن يخضع لهذه الدراسات السريرية يفعل ذلك لأنه فقير؛ فهناك الكثير ممن يخضعون لها بدافع الحاجة. ذات مرة وجدت صبياً كان يشارك في الدراسات ليصبح أخصائي أعصاب، وهكذا كان يموّل حياته المهنية.
لكنَّ هناك آخرين كل ما أرادوه هو دفع ثمن الكماليات؛ فقد رأيت أشخاصاً يأتون إلى العيادات في سيارات مرسيدس بنز ويرتدون الكثير من السلاسل الذهبية. ما أريد أن أفعله بالمال الذي أحصل عليه في العيادات هو تناول الطعام في المطاعم، وكذلك للتوفير تحسُّباً لأي شيء قد يحدث.
يبلغ عمري 49 عاماً بالفعل، وعندما تتجاوز سن 55 عاماً، تبقى هناك القليل جداً من الدراسات التي تُقبل فيها، لأن أكثر الأعمار المقبولة تكون في حدود 18 إلى 45 عاماً، وإذا أراد أحدهم أن يكسب عيشه من هذا، فأمامه وقت محدود ليفعل.
عربي بوست