انقلاب برائحة أميركية في لندن: «أُمّ الديموقراطيات» بلا برلمان
أصيبت الطبقة الوسطى البريطانية بالصدمة جراء موافقة الملكة إليزابيث على طلب بوريس جونسون تعليق عمل البرلمان لأسابيع. خطوةٌ تسمح له عملياً بتنفيذ «بريكست» دون اتفاق، مع انتهاء المهلة الأخيرة أواخر تشرين الأول/ أكتوبر.
كثيرون رأوا الخطوة انقلاباً على النظام الديموقراطي، وإخلالاً بتوازن السلطات، ومقامرة بمستقبل البلاد ووحدة المملكة من قبل غلاة اليمين الإنكليزي بالتضامن مع مؤيديهم في واشنطن. لكن الصدمة، وما رافقها من احتجاجات، لن تكون قادرة راهناً على التأثير الفعلي في مجرى الأحداث، ولا سيما أن الطبقة نفسها تخلّت عن الشخص الوحيد الذي يمكن أن يصنع فرقاً:جيريمي كوربن
«إنّه هجوم سافر على الديموقراطية. لو كنا في بلدٍ من بلدان أميركا اللاتينية، لقلنا هذا انقلاب مُعلن يؤيده الرئيس الأميركي»، هكذا وصفت النائبة عن «حزب العمال» البريطاني المعارض دايان أبوت، قرار رئيس الوزراء بوريس جونسون، تعليق عمل البرلمان خلال أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر المقبلين، وهي تخاطب حشداً عفوياً من مئات تظاهروا ضد القرار بالقرب من مقر البرلمان في ويستمنستر، ومقر الحكومة في 10 داونينغ ستريت.
للحقيقة، الطبقة الوسطى البريطانية ــــ الليبراليّة التوجهات ــــ، أصيبت وحدها تقريباً بما يشبه الصدمة جراء خطوة جونسون التي صدّقت عليها سريعاً الملكة إليزابيث الثانية، إثر توصية مجلس مستشاريها الذي يتكوّن من أفراد من العائلة الحاكمة، وممثلين عن الكنيسة الرسمية وعدد من القانونيين. بدت الطبقات العاملة،
من جهتها، غير معنية بكيفية تجرّؤ «بوجو» على تهديد توازن السلطات بهذه الطريقة، أو ما قد يعنيه ذلك لصورة النظام الملكي الذي طالما قُدّمت بريطانيا على أساسه إلى فقراء الجنوب بوصفها «أم الديموقراطيات»، وصاحبة أعرق البرلمانات، ولا حتى بمصير مجلس العموم الذي عجز لأكثر من 900 يوم من الانعقاد والمناقشات عن إيقاف حكومات المحافظين من السير نحو هاوية «بريكست».
والطبقة العاملة أكثر قلقاً تجاه ما قد يقدم عليه جونسون تالياً، كون الأخير لم يخفِ توجهاته في التخفيف من الضرائب التي تطاول الطبقة الأوفر حظاً، مع إبقاء سياسات التقشف القاسية في التقديمات الاجتماعية، ورفع سن التقاعد حتى 75 عاماً، وتنفيذ سياسات تقليص للهجرة طبقية الطابع،
إذ تستثني الأثرياء والكفاءات العليا، كما خصخصة التعليم العام، وفتح هيئة الاستشفاء الوطنية أمام رأس المال الأميركي، وتحويلها إلى خدمة مدفوعة الأجر. ولا شك في أن تفرّد الرجل وفريقه بالسلطة سيسمح له بإمرار تلك الحزمة من السياسات التي تكاد تتفوّق في مجموعها لناحية التأثير في مصير البلاد، على الهجمة النيو ـــــ ليبرالية التي قادتها رئيسة الوزراء الراحلة، مارغريت تاتشر.
استجابة الطبقة الوسطى، حتى الآن، لا تشير إلى قدرتها على التأثير الفعلي في مجريات الأحداث. فالتظاهرات الخجولة في لندن وإدنبرة (عاصمة إقليم اسكتلندا) وكارديف (عاصمة ويلز) بدت هزليّة الطابع، وافتقرت إلى مطالب محددة. واندفع ناشطو هذه الطبقة إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتوقيع على عريضة موجّهة إلى البرلمان تطالب بوقف إجراءات السلطة، ويبدو أن عدد الموقعين عليها سيتجاوز المليونين.
اقرأ المزيد في قسم الاخبار
كذلك، أدلى برلمانيون وشخصيات عامة أمس بتصريحات نارية للصحافة والتلفزيونات، وقال بعضهم إنهم سيعتصمون داخل مبنى البرلمان وسيستمرون بعقد الجلسات، وسيدعون الشعب إلى الالتفاف حولهم، أو أنهم سيلجأون إلى القضاء، بينما استدعى بعضهم الآخر المرّة الأخيرة التي عُلّق فيها عمل البرلمان عام 1640، وانتهت إلى حرب أهلية، وقطع رأس الملك تشارلز الأول. لكن تلك المواقف لا تعدو كونها شكلية ما دامت الملكة منحت الغطاء القانوني لـ«انقلاب» جونسون.
وعليه، تميل التوقعات الآن في اتجاه مضيّ «بوجو» في تنفيذ مخططه الذي يتضمّن مرحلياً إنهاء عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، وفرض إجراءات استثنائية للتعامل مع معطيات سلبية محتملة (اقتصادياً واجتماعياً ولوجستياً) قد تترتب على ذلك، مع التشبيك في المقابل مع الولايات المتحدة، وإسرائيل، والهند، وبلدان الخليج العربي.
أصيبت الطبقة الوسطى بما يشبه الصدمة جراء خطوة جونسون جونسون، الذي يمثّل الجناح الشوفيني المتطرف في اليمين البريطاني، والمتحالف مع نخبة 1% من البريطانيين الفاحشي الثراء، ليس معنياً كما يبدو بكل التحذيرات بشأن سلبيات «بريكست» دون اتفاق. وهو يعتقد أنه، في حال تنفيذه ذلك، سيحصل على تأييد عريض من الطبقة العاملة البيضاء، يكفل حصوله على الغالبية في انتخابات عامة قد يضطر إلى الدعوة إليها خلال الأسابيع أو الأشهر التي تلي نهاية تشرين الأول/ أكتوبر، وتالياً البقاء في السلطة لخمسة أعوام مقبلة تسمح له بتنفيذ مجمل أجندته السياسية والاقتصادية.
الطبقة الوسطى البريطانية، وهي تتماهى موضوعياً وبنيوياً مع العولمة والانفتاح وترى أن مستقبل البلاد لا يتحقق عبر سياسات الانعزال القومي، وتسعى إلى البقاء ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي، كانت قد أطلقت النار بنفسها على فسحة الأمل الحقيقية الوحيدة الممكنة لإيقاف تيار السقوط نحو «بريكست»، عبر عدوانها غير المبرّر على زعيم «حزب العمّال» جيريمي كوربن.
الأخير، مع أنه يتمتع بشعبيّة غير مسبوقة في أوساط الطبقة العاملة، والتزم معظم الوقت سياسات متوازنة تجاه «بريكست»، ويعد حزبه الثاني في عدد المقاعد البرلمانية، تعرّض للهجوم من الليبراليين بوصفه شريكاً في «بريكست» مع المحافظين، ويحمل أجندة اشتراكية النزعة ستعصف بمصالح البورجوازيين الصغار لمصلحة العمال والفقراء والأقل حظاً.
حتى عندما خفّض كوربن سقفه، واقترح الأسبوع الماضي على قادة أحزاب الوسط المعارضة دعمه لتشكيل حكومة تصريف أعمال موقتة تتولى تنفيذ «بريكست» منظماً باتفاق مع بروكسل، أو الدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة، فضّلت رئيسة «حزب الليبراليين الأحرار»، جو سوينسون، بقاء حكومة جونسون في موقعها بدلاً من تصعيد كوربن، وهو ما قضى على «الفرصة الأخيرة» لكسر اندفاعة جونسون.
إذاً، إن «انقلاب» جونسون ـــــ الذي يحظى بدعم علني من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ـــــ سيمضي قدماً في إعادة تموضع استراتيجي شامل للمملكة المتحدة سياسياً واقتصادياً لتدير ظهرها للجيران الأوروبيين، وتتجه غرباً نحو الحليف الأميركي. ولا تتوفر للمعارضين أي قنوات سياسية أو قانونية أو حتى إعلامية لمنع ذلك، فيما تتضاءل الى حد الانعدام فرص نجاح التصويت لإسقاط الحكومة في الأيام القليلة التي سيتمكن فيها مجلس العموم من الانعقاد قبل التعليق وبعده.
حتى دعوات الانفصال التي تعالت في الأقاليم الخاضعة لحكم لندن (اسكتلندا وإيرلندا الشماليّة وويلز)، لا تزال تسلك القنوات الرسمية التي يمكن للحكومة إغلاقها عند الحاجة. لقد أطلق جونسون بتعليقه البرلمان مرحلة جديدة في تاريخ البلاد، وسيكون «بريكست» مع 31 تشرين الأول/ أكتوبر مجرّد جسر رمزي للعبور نحو تلك المرحلة. لكنّ ذلك الموعد لن يخرج عن كونه مجرّد تفصيل مملّ في رحلة الإمبراطوريّة البريطانيّة المتقاعدة نحو الترامبيّة، وعصر انتصار الشوفينيّات والفاشيات الجديدة على الجميع. ولا عزاء لليبراليين!