التواجد الأمريكي والروسي في الشرق الأوسط.. الى أين؟
سركيس أبوزيد
ما زال الشرق في منطقة التوتر والخطر وقد يشهد تطورات ميدانية ضاغطة، من شأنها أن تدفع الوضع باتجاه المزيد من زعزعة الإستقرار في المنطقة. ترافق ذلك مع الحديث مجددًا عن صعود “داعش”، حيث أكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مؤخرًا أن تنظيم “داعش” لا يزال يمثل تھديدًا. وكان معھد “دراسة الحرب” في واشنطن أصدر مؤخرًا تقريرًا حذر فيه من عودة تنظيم “داعش” مرة أخرى بشكل سريع وأكثر خطورة وقيامه بشن موجة جديدة من الھجمات في أوروبا. وأكد أن “داعش” يسعى إلى إعادة سيطرته الإقليمية في العراق وسوريا، وسينجح في ذلك إذا انسحبت الولايات المتحدة.
لذلك يقترح المعهد وقف خطط إدارة ترامب لسحب القوات الأميركية من سوريا، بالإضافة إلى دعم قوات سوريا الديمقراطية وتوسيع عمليات المساعدات الإنسانية للحد من جاذبية “داعش” خاصة بين السكان الذين يعيشون في مخيمات النازحين. كما يدعو الى وضع استراتيجية أكثر قوة لھزيمة “داعش” بشكل نھائي.
ومؤخرًا، رفع 400 عضو في مجلسي النواب والشيوخ رسالة الى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، اعتبروا فيها أن الإنسحاب من سوريا خطأ، وطالبوا باستراتيجية جديدة تتضمن 3 عناصر ھي:
– حق “إسرائيل” المزعوم في “الدفاع” عن النفس، وتنفيذ مذكرة التفاھم ذات العشر سنوات بين الولايات المتحدة الأميركية و”إسرائيل” والرامية إلى ضمان وصول الكيان إلى الموارد والمواد التي يحتاج إليھا لـ”الدفاع” عن نفسه في وجه التھديدات التي تجابهه على طول الحدود الشمالية.
– الضغط على إيران وروسيا في سوريا، واقترحت الخطة الأولية على إدارة ترامب “العمل مع حلفائنا وشركائنا لزيادة الضغوط على إيران وروسيا بغية تقييد أنشطتھما المزعزعة لأمن واستقرار المنطقة”.
– زيادة الضغط على حزب لله، عبر التنفيذ الكامل والقوي لقانون منع التمويل الدولي للحزب الصادر عام 2015، ومذكرته التعديلية الصادرة عام 2018 ، فـ”العقوبات التي تستھدف حزب الله ومن يشرفون على تمويله تمكن واشنطن من الإقلال من قدراته على تھديد وتحدي “إسرائيل” والضغط على قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) لتنفيذ تفويض مجلس الأمن الدولي بالتحقيق والإبلاغ عن الأسلحة والأنفاق التي يُعثر عليھا عبر الحدود اللبنانية مع “إسرائيل””.
في المقابل، نجد أن ھناك تناقضًا حادًا بين موسكو وواشطن حول معالجتها لهذه الملفات المتعلقة بالشرق الأوسط، فبعد تسلمه السلطة وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نصب عينيه استراتيجية سياسية خارجية ھدفھا تغيير قواعد اللعبة وإعادة ھيبة روسيا كقوة كبرى على الساحة الدولية وتواجد طويل الأمد له في الشرق الأوسط، في الوقت الذي تنكفئ فيه الولايات المتحدة عن التدخل في شؤون المنطقة.
فبوتين ينظر إلى الشرق الأوسط كجزء من جوار روسيا الواسع، خصوصًا أنه يمتلك ثروة نفطية وغازية، وفرصًا لعلاقات ومشاريع تجارية بالنسبة إليه. روسيا تحتاج إلى إقامة علاقات شراكة مع دول ھذه المنطقة، ودول العالم الإسلامي والعربي، لتقليل حجم التھديدات على حدودھا الجنوبية. وتعتبر ھذه المنطقة الخزان العالمي لمادة النفط والغاز الطبيعي ومركز الثقل لخطوط الأنابيب التي تنقله، وتعمل عليه روسيا (في تركيا والعراق ولبنان وسوريا) بھدف إنشاء جسر بري إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط وستؤدي ھذه الخطوة إلى تعزيز دورھا كمورّد أساسي للغاز في أوروبا وستوسع نفوذھا في الشرق الأوسط، مما يشكل مخاطر جسيمة على المصالح الأميركية والأوروبية. وھذا ما يجعلھا مسرحًا للتجاذب الجيوسياسي الروسي – الغربي بسيناريوھات ظاھرھا سياسي وباطنھا اقتصادي.
لقد أدرك بوتين أن روسيا كانت على خطأ في انسحابھا من المواقع التي كانت قد ورثتھا من الاتحاد السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط، ويسعى الى إستعادة ھيبة روسيا الدولية عبر إستغلال الإنكفاء والفراغ الأميركي بشكل أساسي، وھو الأمر الذي وفر له فرصة لسد الفراغ وبناء مناطق نفوذ جديدة ولعب دور أكثر نشاطا.
فقد أعاد بوتين صياغة قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، وكانت البداية في التدخل العسكري في سوريا الذي شكل إنعطافة بارزة في تاريخ السياسة الروسية تجاه منطقة الشرق الأوسط لتحقيق مزيد من النفوذ الإقليمي حيث إن سوريا بوابة للمنطقة ومنصة للوجود الروسي العسكري. وتُعتبر المصالح الاقتصادية الروسية في سوريا من أھم الدوافع للدعم الروسي للنظام السوري، وتتركز على عاملين: التبادلات التجارية واستثمارات الشركات الروسية، والتعاون في قطاع الطاقة.
الأحداث التي شھدتھا سوريا منذ بداية العام 2011 أعادت ترتيب الأولويات لأھداف سياسة روسيا الحديثة في الشرق الأوسط، فميناء طرطوس والذي يتم حاليًا تحويله إلى قاعدة بحرية، يعتبر موطئ قدم روسيا الوحيد على البحر المتوسط، بحيث تسعى موسكو من خلاله إلى استعادة مكانة البحرية الروسية في ھذا البحر، مستكملة بذلك الخطة التي بدأتھا بوضع اليد على قاعدة “سيفاستوبول” المطلَة على البحر الأسود عند ضمھا لشبه جزيرة القرم في العام 2014.
لقد عرف بوتين كيف يقارب عددًا من الملفات الدولية الحساسة (الملف النووي الإيراني، شبه جزيرة القرم، سوريا…) ويواجه التحديات والعقوبات الغربية بتغيّرات استراتيجية للتأقلم مع الواقع الجديد وإبقاء سيطرته على المنظومة السياسية داخليًا وخارجيًا.
تبدو روسيا اليوم مستعدة للولوج بشكل أكبر في قضايا الشرق الأوسط وتسعى لتعزيز قبضتھا وتثبيت شرعيتھا في البحر الأبيض المتوسط. ونجحت الدبلوماسية الروسية في إقامة علاقات جيدة مع الدول الحليفة تقليديا مع الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة كالسعودية ودول أخرى في مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن وتركيا، إضافة الى “إسرائيل”. فقد بدأت جميع ھذه الدول تخشى إلتزامًا غير كامل من الولايات المتحدة الأميركية تجاھھا. وتبدو روسيا اليوم ھي الحامية للوضع القائم في الشرق الأوسط حيث يُنظر إليھا على أنھا أكثر تماسكًا ومصداقية في سياساتھا الشرق أوسطية. فلطالما حرصت روسيا على أن يكون لھا مكان ودور متمّيزان في حفظ الأمن والإستقرار في مناطق العالم الحساسة لتؤكد أنھا لا تزال تتمتع بمكانة خاصة على الساحة الدولية، واعتمدت خيار بناء تفاھمات متعدّدة الأطراف في وجه الھيمنة الأميركية، وروسيا اليوم ترسل مؤشرات على أنھا استعادت دورھا كلاعب أساسي في المنطقة واستقرت فيھا كقوة يحسب لھا حساب. فلقد استطاع بوتين الوقوف في وجه الھيمنة الأميركية بكسر الأحادية القطبية من خلال “منظمة شانغھاي” للتعاون في مجال الأمن، و”مجموعة البريكس” للتعاون في المجال الاقتصادي وخلق توازن في القضايا العالمية والأمنية والمالية والاقتصادية، وصولًا الى أداء دور الوسيط النزيه في تسوية الخلافات العربية والشرق أوسطية. وحافظ على وحدة الأراضي الروسية، ومكافحة الإرھاب، وحفظ الھيبة والمكانة الدوليين، وتقوية القدرات الاقتصادية وإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب.
التواجد الأميركي – الروسي في الشرق الاوسط يتجه الى المواجهة أم الى التسويات؟ سؤال جوابه في المستقبل.
العهد