الشمال السوري.. تقاطعات وتباينات بموازاة متغيّرات المنطقة
يشهد الشمال السوري منذ أسابيع تحرّكاً مُضطرداً للأحداث التي يتشارك في تسخينها الأطراف المعنيون كلٌ من ناحيته. تركيا عادت إلى محاولاتها القديمة للسيطرة على منطقة آمِنة لنفوذها، وأميركا تسعى إلى تعزيز أوراقها الضعيفة في الميدان، بينما تُكثِّف دمشق جهودها لاستعادة الأرض من براثِن القوى الطامِعة، مدعومةً بدورٍ روسيٍ مُزدوج، قوامه دعمٌ للجيش السوري من ناحية، وجهدٌ دبلوماسي-سياسي مع القوى الأخرى من ناحيةٍ ثانية.
على وَقْعِ الأحداث المُتسارِعة في المنطقة، وتزايُد الضغوط الدولية في أجوائها من جموح العقوبات الأميركية على إيران والمقاومة اللبنانية، وارتفاع منسوب العنف في اليمن، واستهداف العدو الإسرائيلي للحشد الشعبي العراقي وحزب الله في لبنان، كانت تشكيلات الجيش السوري تسيطر على مناطق جديدة في محافظة إدلب التي لا تزال أعدادٌ كبيرة من المسلّحين المُتطرّفين تتَّخذ منها ملاذاً ومُنطلقاً لأعمالها.
فقد شنّ الجيش السوري عملية عسكرية في مناطق أنفاق “جيش العزّة” استمرت ثلاثة أسابيع سيطر خلالها على الأنفاق التي حفرها عناصر التنظيم في شمال حماه، فيما هرب مَن تبقّى منهم إلى ريف إدلب الجنوبي.
واستعادت وحدات الجيش عدداً من البلدات والتلال في ريف إدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي، وكان أهم هذه الإنجازات التي تحقَّقت في الوثبة الأخيرة للجيش السوري سيطرته على مدينة خان شيخون الاستراتيجية في ريف إدلب الجنوبي إضافة إلى بلدات عديدة في ريف حماه الشمالي.
اقرأ المزيد في قسم الاخبار
واللافت في المسألة أن الجيش السوري أعلن مباشرةً بعد تحقيقه هذه القفزة، وقف إطلاق نار من طرف واحد، ما يشير إلى استغلاله ظروفاً ميدانية وأخرى سياسية لممارسة سياسة القَضْم في سياق سعيه الدائم والمُعلَن إلى استعادة كامل التراب السوري في نهاية المطاف، وهو هدف يبدو أنه يسير باتجاهه مع تقدّم الأحداث.
وكان لا بد لهذه التطوّرات من أن تستفزّ تركيا الطامِعة بتحقيق “منطقة آمِنة” تسيطر عليها في شمال سوريا، وتمنع من خلالها تواجد الكرد في مشروعٍ مُنظّمٍ قابل للتحوّل إلى كيانٍ يُهدّد أمنها بحسب ما تراه أنقرة.
وعلى وَقْعِ تهديدات أردوغان بالتدخّل مُجدّداً في شمال سوريا، تدخّل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتقريب وجهات النظر حيال ملف إنشاء المنطقة الآمِنة، حيث رأى أن التطوّر “يساعد في توفير شروط إيجابية لحماية سلامة الأراضي السورية”، في حين برز تبايُن حول آليات مُعالجة الوضع في إدلب. وفي مقابل تأكيد الرئيس الروسي التوصّل إلى “تفاهُمات حول تدابير لإزالة الخطر الإرهابي من المنطقة”، حمَّل أردوغان الحكومة السورية مسؤولية فشل تطبيق “اتفاق سوتشي”، وشدَّد على عدم قبول “مواصلة استهداف المدنيين” في إدلب ومحيطها.
وفي حين اتفقت موسكو وأنقرة على دفع جهود تشكيل اللجنة الدستورية، تمّت الإشارة إلى اللقاء الذي سيجمع بوتين إلى الرئيسين التركي والإيراني أواسط الشهر الحالي في أنقرة. وقد دخل الرئيس الروسي إلى معالجة القلق التركي من تحرّك جبهة الشمال السوري من باب التفهّم لهذا القلق، مُعتبراً أن لدى أنقرة “مصالح مشروعة، وإقامة منطقة آمِنة سوف تشكّل شرطاً إيجابياً لتوفير سلامة الأراضي السورية”.
وفي الوقت نفسه الذي تحاول فيه روسيا معالجة قلق أردوغان في الشمال السوري، والتي وصلت إلى حديث بوتين شخصياً لأول مرة بصورةٍ إيجابية عن المنطقة الآمِنة، كانت موسكو تدعو إلى تخفيف التوتّر الناشئ بين العدو الإسرائيلي من جهةٍ ومحور المقاومة من جهةٍ ثانية، حيث دعت الخارجية الروسية الأطراف إلى ضبط النفس وعدم الإنجرار نحو تصعيد، ورأت أن تصعيد ما وصف بأنه “حرب الطائرات المُسيَّرة” قد يؤدّي إلى “اندلاع نزاع عسكري واسع لا يمكن التنبّؤ بتبعاته”.
الواقع المتطور في المنطقة
الإشارة الروسية إلى حرب الطائرات المُسيَّرة هامة جداً في هذا التوقيت بالذات، إذ تزيل اللُبْس عن تحليلات ومعلومات تُضخّ إعلامياً تدّعي عدم انزعاجٍ روسي من الاعتداءات الإسرائيلية المُتكرِّرة بالطائرات المُسيّرة على العراق وسوريا، ومؤخراً على لبنان، ليأتي إعراب موسكو عن قلقها من هذه الممارسات ليؤكّد قصور هذا التحليل عن مُحاكاة الواقع المُتطوّر في المنطقة، خصوصاً لناحية العلاقة بين موسكو وطهران، التي تحدِّدها مصالح استراتيجية أهمها الهاجِس الروسي المستمر من حدوث أيّ تغيّر جيوسياسي على حدودها الجنوبية، يمكن أن يأتي بحلفاء أميركا إلى المنطقة، الأمر الذي يفضي إلى طوقٍ أميركي حول جنوب روسيا يضاف إلى هلال الناتو في شرق أوروبا.
وفي المقابل، تهتمّ روسيا في هذا السياق بالمُحادثات التركية الأميركية والاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه نحو إنشاء “المنطقة الآمِنة” في شمال شرق سوريا، والذي قال أردوغان إنه يجب ألا يتأخّر.
هذا التعاون الحَذِر بين أردوغان وترامب وضعته تركيا في سياق “حماية المدنيين في منطقة إدلب السورية”، كما أعلنت وكالة الأناضول في 28 آب/أغسطس المنصرم. لكن أردوغان يقرن حديثه عن هذا الاتفاق بالتأكيد أن القوات التركية على أُهبة الاستعداد على الحدود مع سوريا وإن العملية الخاصة بالاتفاق مع الولايات المتحدة يجب أن تمضي بوتيرةٍ سريعة، خصوصاً مع إشارته إلى أن منطقة خفض التصعيد في إدلب تختفي تدريجاً بسبب الهجمات التي تشنّها القوات الحكومية السورية.
وتبعاً لهذه الرؤية التركية التي لا تقتصر على تطوّرات الشمال السوري، شنّت أنقرة مطلع الشهر الحالي غارات على مواقع منظمة “بي كا كا” في منطقة هاكورك شمالي العراق، بتنسيقٍ مع جهاز الاستخبارات التركي أسفرت عن مقتل خمسة عناصر من الحزب الكردي.
لكن بعد أيام من هذه الأحداث، أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي آكار عن وجود خطط بديلة لدى بلاده إذا تخلَّفت واشنطن عن وعودها بشأن المنطقة الآمِنة، وأن بلاده قادِرة على فعل ما يلزم إذا لم تلتزم الولايات المتحدة وعودها بشأن المنطقة الآمِنة شرق الفرات السوري. وكانت إشارة آكار ذات معنى حين قال إن تركيا “لم تنسَ” تجاربها مع الوعود الأميركية في منبج والرقة، لذلك “نتابع بدقّة وعن كثب الالتزام بالوعود التي قطعتها واشنطن بشأن المنطقة الآمِنة، ولن نقبل بأيّ أمر من دون التدقيق بكل المعلومات المُقدَّمة لنا”.
تقاطعات وتباينات
هذه التصريحات اللافِتة واكبها الرئيس التركي بتصريحٍ لا يقلّ معنى وأهمية، حين توعَّد السبت الماضي بشنّ عملية في شمال شرق سوريا في حال لم تسيطر القوات التركية على “المنطقة الآمِنة” التي اتفقت أنقرة وواشنطن على إقامته، مُشيراً إلى عدم وجود الكثير من الوقت والصبر بخصوص هذه المسألة، واضعاً الإطار الزمني لذلك بحدود “أسابيع قليلة”.
وبالعودة إلى النظرة الروسية لحراك الشمال السوري، فقد أكَّد بوتين دعم بلاده لعمليات الجيش السوري لاستعادة إدلب من أيدي المُسلّحين، مُعتبراً أن هؤلاء زادوا من رقعة سيطرتهم على المدينة. وفي المقابل، فإن موسكو اتهمت واشنطن بالتباكي على المدنيين في إدلب، وهو اتهام أعاد إلى الأذهان مواقف مُماثلة لموسكو بوجه واشنطن عندما كان الجيش السوري يُحرِّر أية مدينة من مدنه في معاركه السابقة مع الجماعات الإرهابية.
هذا التباكي الأميركي، يبدو أنه ما زال يتقاطع مع تباكٍ تركي على الأمر نفسه، وهذا يشير إلى استمرار بعض التقاطُعات المهمة بين الأميركيين والأتراك في الشأن السوري، مع استمرار وجود خلافاتٍ جوهرية، أهمها يتعلّق بالموقف من التنظيمات الكردية على اختلافها، والتي يدعم الأميركيون بعضها، في حين يتوجَّس الأتراك من أيّ تنظيم كردي يحمل مشروعاً له طبعةٍ قومية خاصة في سوريا والعراق.
وتتعاطى روسيا مع هذه التقاطُعات والتبايُنات المختلفة بين الأميركيين والروس باهتمامٍ واضحٍ، تمّ التعبير عنه من خلال تفهّم بوتين للموقف التركي بخصوص المنطقة الآمِنة، ووضعه المسألة في إطار فائدتها بالنسبة إلى وحدة الأراضي السورية، بحسب الرؤية الروسية. فالرئيس الروسي أكَّد بعد التفهّم اللافت المذكور، أنه اتفق مع نظيره التركي على أن “سوريا يجب أن تظلّ دولة موحَّدة”.
تهدئة الاندفاعة التركية
يمكن القول إن الجهود الروسية تنصبّ خلال هذه المرحلة على تهدئة الاندفاعة التركية باتجاه يُعارِض مصلحة الدولة السورية وقدرتها على استعادة كامل ترابها الوطني، وتزخيم جهود تطبيع الحال على المستوى السياسي من الخارج باتجاه الداخل، سياسياً وشعبياً. وفي هذا السياق جاء تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقول إن نحو 1.5 مليون لاجئ عادوا إلى سوريا منذ العام الفائت، وأن الحديث عن أن الحكومة السورية لا تخلق الظروف المُلائِمة لعودة شعبها هو حديث مُسيَّس ومُتحيِّز، مُعزِّزاً مُعطياته بأن “عدد العائدين من لبنان والأردن كبير للغاية، حيث يعود أكثر من ألف شخص يومياً”.
وفي مقابل هذه الجهود، نفَّذت قوّة تابعة للتحالف الدولي بمشاركة مجموعة من “قسد” في الثاني من أيلول/ سبتمبر الحالي عملية أمنية في قرية العزبة شمال دير الزور، رافقتها عملية إنزال جوي. وتمّ الترويج للعملية على أنها أسفرت عن اعتقال ثلاثة عناصر من “تنظيم الدولة” كانوا مُختبئين في أحد منازل القرية، وعلى أن العملية هي الثالثة من نوعها خلال 24 ساعة.
وزارة الخارجية الروسية علَّقت على قرار الولايات المتحدة الخاص بقصف منطقة خَفْض التصعيد في إدلب، خاصة وأنها لم تبلِّغ مُسبقاً روسيا أو تركيا بذلك. فقالت: من ناحية، يطالب ممثلو الولايات المتحدة على جميع المنابر، بما في ذلك الأمم المتحدة، بوقف تصاعُد التوتّر في إدلب، ويحاولون إثارة المشاعر بالتباكي على مُعاناة السكان المدنيين، ويتجاهل الأميركيون الحشد الضخم غير المسبوق للإرهابيين. ومن ناحيةٍ أخرى، يوجّه الأميركيون ضربات جوية تُسبِّب دماراً كبيراً وسقوط عدد كبير من الضحايا”. وتساءلت الخارجية الروسية: بماذا تتميَّز القنابل الأميركية عن القنابل الروسية؟ ولماذا الأهداف الإرهابية التي يقصفها الأميركيون مشروعة أكثر من المسلّحين الذين قضى عليهم الجيش السوري بدعمٍ من الطائرات الحربية الروسية؟.
هذه التساؤلات والتطوّرات المُعقَّدة بين اللاعبين الأساسيين في الشمال السوري تقود إلى نتيجةٍ واحدةٍ، مفادها أن عملية استعادة الجيش السوري لكامل الأراضي السورية مستمرة ميدانياً بنجاحٍ وبتروٍ واضح. لكنها في الوقت نفسه تسير على وَقْعِ الإدارة السياسية التي تشارك روسيا في برمجتها، وصولاً إلى استعادة الدولة السورية قواها الكاملة، وكامل مواطنيها، بالإضافة إلى قدرتها على إدارة نظام حكمٍ جديد يتناسب ونتائج الحرب الطويلة التي تستعجل دمشق وضع نقطة على آخر سطرها الأخير.