أسرار التحرك الأمريكي المكثف لإيقاف العدوان التركي على سوريا
إيهاب شوقي
ساعات قليلة فصلت بين تحركات أمريكية متناقضة، بدأت بالإعلان عن سحب القوات من المناطق التي أعلنت تركيا نيتها الهجوم عليها في الشمال السوري وهو ما يعني فتح الطريق للأتراك لتنفيذ عمليتهم العسكرية، ثم تحذير الاتراك من التجاوز في العملية العسكرية، ثم التلويح بتدمير الاقتصاد التركي، ثم الإعلان عن عقوبات على الأتراك، ثم ارسال نائب الرئيس لتركيا والإعلان عن التوصل لوقف اطلاق النار.
بالتأكيد لا يمكن لعاقل ان يتصور ان الدوافع وراء التحركات اللأمريكية المكثفة في الساعات الأخيرة لوقف العملية التركية، تنبع من حرص أمريكي على عدم انتهاك السيادة السورية، او حرص على وحدة الاراضي السورية، كما لا يمكن لعاقل ايضا ان يظن ان ترامب عميل لروسيا او لمحور المقاومة ويعمل لصالحهم!
ترى إذن ما هي الدوافع التي حركت الموقف الامريكي بهذا التسارع وهذه الحدة وهذا الاصرار، وما هو انعكاس ذلك على العدوان التركي واهدافه المعلنة؟
تبدو الاجابة هنا على هذه التساؤلات مركبة، فمنها ما يتعلق بالموقف الداخلي الامريكي، ومنها ما يتعلق بالوضع الدولي وأخيرا ما يتعلق بالوضع الإقليمي.
أولا: بخصوص الوضع الداخلي الأمريكي:
أثيرت عاصفة غضب كاسحة بالداخل الأمريكي، ولم يشمل الغضب معارضي ترامب والراغبين في عزله فقط، بل طال الغضب معسكره، ويبدو وأن الغضب قد وصل الى الدولة العميقة الأمريكية، وهو ما يفسر التغير السريع بالموقف الامريكي والتحرك المكثف والذي يذكرنا بتحركات كيسنجر المكوكية ابان تعرض العدو الاسرائيلي للانهيار في بدايات حرب تشرين اكتوبر من العام 1973، وهنا ينبغي القاء الضوء على عدد من الاعتبارات الهامة:
1ـ هناك انهيار كارثي لسمعة امريكا تجاه حلفائها، وهذه المرة كان التخلي على حلفاء امريكا من الاكراد فجا وغادرا، ورغم ان امريكا في العادة لا تأبه كثيرا بسمعتها وتعتمد على منطق القوة، الا ان هذا الانزعاج يؤشر الى تراجع قوتها في المنطقة مما يجعل لسمعتها لدى الحلفاء اهمية كبيرة، كما ان التخلي عن الاكراد تخطى نطاق سوريا الجغرافي ليبعث بإشارات مقلقة لمناطق أخرى، وصفها المستشار السابق لسياسة الأمن القومي والدولي لحزب المحافظين البريطاني غارفان والش، بالقول: “لقد تخلت واشنطن عن الأكراد. إذا لم تعزز أوروبا دفاعاتها ، فإن البولنديين والليتوانيين واللاتفيين قد يكونوا بعد ذلك”، وهي اشارة خطيرة لخروج امريكي كامل ليس من سوريا فقط، بل من مناطق تمركزها الرئيسية في المحيط الحيوي الروسي، وهو ما يعني طرد امريكا من شرق أوربا والبلطيق وتركها للنفوذ الروسي، وهو ما يبدو وأنه تجاوز من ترامب لخط أحمر عريض من خطوط الدولة الامريكية العميقة.
2ـ الاتفاق الامريكي التركي، يعكس هزيمة امريكية كاملة امام الاتراك، وتنفيذ كامل لإرادة الاتراك في النقاط الخلافية مع امريكا بخصوص المنطقة التي ارادتها امريكا (عازلة) بينما أرادتها تركيا (امنة) وهو ما يترجم عمليا إلى عمق التوغل التركي وتغيير ديموجرافية المنطقة، وهذا الاتفاق يعني، ان امريكا ارادت اتفاقا شكليا لتدارك سمعتها وللايحاء بأنها انقذت الاكراد ولم تتخل عنهم، بل وقامت بحمايتهم، كما يوحي بأن امريكا لا تزال لاعبا في سوريا ولم تصبح خارج الملعب بعد ان كرس انسحابها قبيل بدء العدوان هذه الحقيقة.
3ـ الحفاظ على مقاربة أمريكية معتادة، وضحها كيسنجر وصاغها بحرفية وايجاز بديع، حينما تحدث عن دور امريكا ابان حرب تشرين/اكتوبر، حيث قال ان الهدف الامريكي فلسفة تحركاته كانت بغرض تسييد قناعة مفادها، انه لو حسمت الحرب بانتصار السلاح الروسي، فإن السلام لن يتحقق بدون الدبلوماسية الأمريكية.
وهو ما يبدو انه وراء التحركات الدبلوماسية الامريكية التي تحاول ان توحي بأن التسوية لن تحسم دون تدخل امريكي، مهما كانت النتائج على الأرض وفي الميدان!
ثانيا: بخصوص الوضع الدولي:
مع اقتراب الخروج البريطاني من الاتحاد الأوربي، فإن هناك نذر خطيرة يرصدها خبراء الأمن القومي الأمريكي، تتمثل في أمن الاتحاد الاوربي وضعف الاتحاد وتمدد النفوذ الروسي، ففي 2016 قال مدير الاستخبارات المركزية جون برينان أمام الكونغرس إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيتسبب في زلزال أمني كبير في أوروبا، التي لا تعمل أجهزتها الأمنية بكفاءة في مواجهة التهديدات الإرهابية.
كما كرر مدير “اليوروبول” روب وينرايت كلام برينان بصيغة مختلفة، إذ قال إن انفصال بريطانيا عن أوروبا يعني أن جهاز الشرطة البريطاني سيخرج من البنية التحتية الأمنية للاتحاد الأوروبي، التي بنيت على مدار أربعين عاما.
وقال داليبور روهك، الخبير في معهد أميركان إنتربرايز في واشنطن في كتابه “اتحاد أوروبي متوجس”: إن تأثير الكرملين في أوروبا الوسطى والشرقية ازدهر بفضل سياسة ذكية معتمدة على بيع الطاقة والدعاية الماهرة، بينما لا يملك الناتو الأدوات للتصدي لذلك، وسيمثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فرصة أكبر لهيمنة روسية على جزء من أوروبا ما زالت الولايات المتحدة غير راغبة في تصدر المواجهة فيه، كما جرى في أوكرانيا.
وتفيد التقارير بأن هذه التحليلات استندت عليها إدارة الرئيس أوباما في اعتبار أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيدفع الولايات المتحدة إلى حرب على جبهتين، الأولى محاولة تغيير معادلة خطوط التماس الأمنية مع روسيا في أوروبا، إذ بعد أن دفعت امريكا بدول الاتحاد وفي مقدمتهم ألمانيا وبريطانيا إلى مواجهة روسيا نيابة عنه، سيكون عليه أن يواجه التهديدات الروسية في المقدمة.
والجبهة الثانية تتعلق بأمن أوروبا بلا بريطانيا، الذي لا شك سيتعرض لزلزال كبير سيصل صداه إلى أروقة حلف الناتو واليوروبول ومن ثم الدفع باتجاه دور أميركي أكثر تقدما للمحافظة على قوة الردع التي تمتلكها في أوروبا، لاسيما استقرار هذه المنطقة المهمة وهو الأمر الذي سيتطلب جهدا عسكريا وسياسيا.
الثغرة والايتزاز السياسي
ثالثا: بخصوص الوضع الإقليمي:
فإن العدوان التركي ورغم تقاطعه مع مصالح امريكية، الا انه ومع تحرك الجيش العربي السوري شمالا، ومع عقد تفاهمات لاحتواء القوات الكردية، ومع الوقفة الصلبة لروسيا ومحور المقاومة، ومع الادانات العربية ورفع اي غطاء للعدوان، فقد اتضح جليا ان الأمور تسير لصالح الدولة السورية ولصالح روسيا ومحور المقاومة، وان امريكا تفقد الى جانب سمعتها وهيبتها، أخر موطئ نفوذ لها في سوريا، وهو ما لم تكن تتوقعه امريكا، حيث يبدو وان حساباتها كانت متواطئة مع الغزو باعتباره سيكون سريعا وناجحا وسيفرض واقعا جديدا للفوضى وسيشكل بؤرة لاستنزاف الجيش السوري، وربما كانت حسابات امريكا تراهن على عدم قدرة سوريا على التحرك والمواجهة، وعلى تخلخل التفاهمات السياسية وانفجارها وحدوث صراع ينسف اتفاقات سوتشي وغيرها من التفاهمات.
وعلى كل فان ترامب فشل في ذلك، وخرج الديمقراطيون غير راضين عن الاتفاق الوهمي واعلنوا انهم سيواصلون الدعوة لفرض عقوبات وقالوا ان ترامب سلم كل شئ لاردوغان واهدر الثقة في سياسة امريكا الخارجية!
ان الطريقة الحكيمة التي تعامل بها محور المقاومة وروسيا، والشجاعة التي ابدتها الدولة السورية، احبطت التحرك التركي وكشفت الضعف والغدر الامريكي، وقلبت السحر على الساحر.
العهد
Notice: Trying to get property 'post_excerpt' of non-object in /home/shaamtimes/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73