الأميركيون في كل مكان.. فأين روسيا والصين؟
د. وفيق إبراهيم
يرفض الأميركيون الاعتراف بانهيار سيطرتهم الأحادية على العالم، فلا يكتفون بفصيح الكلام على الطريقة العربية، بل يشنّون هجوماً مضاداً بأسلحة اقتصادية واستخبارية وعسكرية، تكاد تعمّ زوايا الأرض. لكنهم يركزون على منطقتين أساسيتين بإمكانهما ضخّ ما يحتاجه الجيوبولتيك الأميركي للاستمرار، وهما أميركا الجنوبية اللاتينية والشرق الاوسط في محوره الإيراني مواصلين أيضاً مناوشة العالم بأسره إنما بعيارات خفيفة، وللمناوشة فقط.
هذه الهجمات إقرار أميركي باقتراب الخطر على أحاديتهم القطبية لمصلحة قوى دولية أخرى أصبحت قادرة على مشاركتهم في إنتاج القرار الدولي والتوسع الاقتصادي.
اما مؤشرات هذه المقدرة فتجمع بين الإمكانات الاقتصادية والعسكرية التي يؤدي التطوّر العسكري العمودي النوع الى انتشار أفقي في سياسات العالم واسواقه.
بالتدقيق، تنكشف الحركة الأميركية، بمحاولاتها إسقاط الأنظمة المتمرّدة عليها في أميركا اللاتينية ـ الجنوبية، وبلمح البصر، يرحل رئيس بوليفيا فارّاً من بلاده بانقلاب عسكري يرعاه الأميركيون علناً.
هذا إلى جانب ضغوط هائلة يمارسها الأميركيون في فنزويلا لإسقاط رئيسها بالحصار حيناً ومشاريع الانقلابات وبالتشجيع على التمرّد والحصار الاقتصادي المفتح حيناً آخر وبشكل متواصل.
هناك أيضاً كوبا التي تتعرّض لحصار أميركي مفتوح ومتواصل يترافق مع محاولات دائمة لتفجيرها منذ ستينيات القرن الماضي، من دون نسيان المكسيك وغيرها، أما أوروبا المقموعة بالنفوذ الأميركي فيزجرها الأميركيون كلما حاولت التسلل من العباءة الأميركية، محوّلين بلدانها الشرقية الى مكامن لترسانات صاروخية ونووية موجهة لأهداف روسية وصينية.
على مستوى الصين، فهي أكبر اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، من أيّ محاولات أميركية لتهشيمها، الأمر الذي يحصر التعرّض الأميركي لها في مسألة التجارة الخارجية بمعنى أنّ الصين تحتاج الى مواد أولية وطاقة وأسواق تصريف للاستمرار في صعودها الكوني، بما يفسّر العقوبات الأميركية التي تستهدف السلع الصينية في حركة انتشارها العالمي.
كذلك روسيا، فإنّ التعرّض لها عسكرياً، شبه مستحيل فلا بأس إذاً من معاقبتها أميركياً بقرارات اقتصادية للحدّ من حركة عودتها الى الفضاءات السوفياتية السابقة.
هذه الوتيرة متبعة أيضاً في كوريا الشمالية، باعتبارها امتداداً صينياً لا تسمح بكين بإصابته بأذى كبير.
انّ هذا الجيوبولتيك الأميركي استشعر بأنّ نظام العولمة المرتبطة بالحدود المفتوحة أمام السلع أدّى الى عكس ما يريده الاقتصاد الأميركي، لأنه أفاد الصين وألمانيا واليابان، متيحاً لسلعها اختراق أسواق كبرى بما فيها الأميركية.
هذا ما جعل الأميركيون ينقلبون على «عولمتهم» الاقتصادية، محتمين من جديد «بالحمائية» ايّ إقفال حدودهم الاقتصادية وأسواقهم أمام بضائع الدول المنافسة. وهي حرب فعلية تعيد التطوّر العالمي الى الزمن القديم، علماً أنّ العولمة التي شملت الاقتصاد والاجتماع والفنون والإعلام والسياسة كان المطلوب منها تعزيز الهيمنة الأميركية العالمية، فتحوّلت وبالاً عليها بالاقتصاد.
يتبيّن أنّ الأميركيين يحدّدون إعادة الإمساك بمنطقتين في العالم، وسيلة ناجحة لمنع تدهور أحاديتهم القطبية وهما أميركا الجنوبية والشرق الأوسط، والناتج الأول لهذه السياسة سقوط النظام البوليفي المعادي لها والحصار الشديد على فنزويلا والتشجيع على الاضطرابات فيها. يكفي انّ أميركا الجنوبية تمتلك أهميات كبيرة، أهمّها موقعها القريب الاستراتيجي المحاذي لأميركا وأسواقها الكبيرة التي تستطيع استيعاب السلع الأميركية ومنع أيّ تمركز دولي منافس فيها، أما النقطة الاضافية فهي أنّ فنزويلا بمفردها تمتلك أكبر احتياط نفطي في العالم.
هناك نقطة أكثر مركزية يعمل الأميركيون على الإمساك بها بما يؤدّي فوراً إلى تماسك قطبيتهم الأحادية، وهي إيران وضرورة إلحاقها بواشنطن. وهذا يتضمن إسقاط البلدان المتحالفة معها في اليمن والعراق وسورية وحزب الله في لبنان وبعض التحالفات في أفغانستان وباكستان. هذا إلى جانب إلغاء تقاربها مع روسيا والصين.
لا يعني هذا الكلام ربط الأسباب الأساسية لاندلاع انتفاضات العراق ولبنان بمؤامرة أميركية، لكنه لا ينفي نجاح الأميركيين في التأسيس لها من طريق أحزاب ونخب وإعلام/ لا يتوانى عن العمل في لعبة التحريض لتفجير أوضاع هذه الدول بما فيها إيران، والدليل انّ الإعلام الخليجي يبث ترهات وأضاليل عن الاضطرابات في إيران بتكبير حجمها والإصرار على نجاحها وامتدادها الى كامل الجغرافيا الإيرانية 24 ساعة يومياً.
هنا يجوز إصرار وتأكيد أنّ الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للانتفاضات حقيقية وصادقة، لكنها لا تذهب الى حدود اعتبار السعودية او أميركا بديلاً، فالسعودية دولة متخلفة في القرون الوسطى لا تنتج شيئاً، والأميركيون ينهبون الشرق الاوسط اقتصادياً منذ 1945 ويدعمون «إسرائيل» والأنظمة المتخلفة المتحالفة معهم.
لذلك فإنّ لعبة التحريض الأميركية ـ الخليجية ـ الاسرائيلية تعتبر أنّ إيران هي مركز محور مناهض للهيمنة الأميركية واتباعها، بما يعني أنّ القضاء عليها يستتبع حماية أنظمة الخليج وتحصين الكيان الإسرائيلي، ويزوّد الجيوبولتيك الأميركي بطاقة إضافية تزيد من عمره الافتراضي.
إيران إذاً مستهدفة بقوة للزوم استمرار الأحادية الأميركية، لكن السؤال هنا، يذهب ناحية الصين وروسيا ليسألهما عن مدى إحساسهما بالخطر من الهجوم على إيران في الخارج والداخل.
فهما الهدف الأميركي الذي يلي إيران، بما يعني وجوب تحركهما بأشكال مختلفة للدفاع عنها ودعم حلفائها في اليمن والعراق وسورية ولبنان أما إذا واصلتا لعبة «الترقب» ومعاينة النتائج فإنّ ترميم الهيمنة الأميركية، يصبح أمراً ممكناً لأنه يصبح بإمكان الأميركيين الاستمرار في السيطرة على احتياطاته الاساسية في قطر والربع الخالي السعودي وإيران نفسها، بما يضع روسيا الأولى في إنتاج الغاز في حلبة منافسة لا تمتلك فيها أوراقاً رابحة.
فهل تنتقل بكين وموسكو من دائرة الرصد إلى مرحلة دعم إيران؟ المعتقد أنهما متجهتان الى هذا الهدف بشكل لا تنخرطان فيه بحرب متنوّعة مع الأميركيين إيماناً منهما بقدرة إيران على المزيد من الصمود وإلحاق هزيمة جديدة بالغطرسة الأميركية.
البناء