من دمشق إلى القارة السمراء روسيا على الخط!
بادئ ذي بدء أود أن ألفت عناية القراء إلى ازدياد نفوذ موسكو في الشرق الأوسط بدرجة كبيرة وبشكل ملفت للنظر في السنوات الأخيرة.
والفضل في ذلك يعزى، بلا شك، للنجاح الكبير الذي حققته القوات الجوية الفضائية الروسية في سوريا، وكذلك للتعاون في مجال الطاقة، وللعلاقات المتينة التي أقامتها روسيا مع تركيا، ومع المنافسين الإقليميين الآخرين للدولة السورية.
ولذا ينظر الآن إلى روسيا باعتبارها اللاعب الكبير الوحيد الذي ينفذ وعوده، وقد تأكدت حقيقة هذا الواقع بالمؤتمر الذي شهدته مدينة سوتشي (روسيا-أفريقيا) في 24 أكتوبر من هذا العام حيث بلغ عدد المشاركين فيها 40 زعيماً إفريقياً.
هذه الثقة في روسيا لم تأتِ من فراغ، عندما نتتبع مسيرة الموقف الروسي من الأزمة السورية، وخطواته المتخذة بمثابرة وتؤدٍ، وآخرها مذكرة التفاهم المتبادلة بين روسيا وتركيا قبل شهر واحد، والتي تجلب السلام إلى سوريا خطوة تلو الأخرى، بل وتجلب الاستقرار إلى دمشق نفسها، ما يعني أن روسيا جلبت السلام إلى الشرق الأوسط، لكن لا يجب بأي حال من الأحوال أن ننسى حجم الضحايا والمآسي التي خلفتها الأزمة السورية، والحديث هنا لا يدور فقط عن العسكريين، بل عن الآلاف، إن لم يكن عشرات الآلاف، من أرواح الناس المسالمين العزل. ومن لقوا حتفهم أثناء قصف المدافع، او اعدموا، واهدرت أرواح كثيرة، والمفقودين بلا أثر وعائلاتهم ما زالت تنتظر عودتهم حتى الآن.
كل هذه المآسي كان من الممكن تلافي وقوعها، لو أن الدول العظمى نفذت وراعت ما أخذته على نفسها من التزامات.
قليلون يعلمون ربما أن موسكو وواشنطن قبل عقد لقاء (أستانا) بفترة غير كبيرة، كانتا على وشك الاتفاق حول تسوية الأزمة السورية، لكن الولايات المتحدة الأمريكية تنصلت من وعودها وأفشلت الصفقة.
حصل ذلك قبل ست سنوات، حيث وقع الجانبان وقتها اتفاقاً ينصُّ على وقف تحليق طيران القوات الحكومية السورية، وعلى التنسيق المشترك فيما بينهما لكل العمليات التي يقوم بها الطيران الأمريكي أو الروسي في سماء سورية، أي أن الجانبين الروسي والأمريكي منح بعضهما البعض حق (الفيتو) على تصرفاتهما في سورية. لكن، للأسف، لم ينفذ شرطه الوحيد، وهو عدم مساعدة أحد أطراف النزاع. هذه حقيقة أعلنها وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف في منتدى باريس الثاني للسلام في أوائل هذا الشهر إذ قال: (وقتئذ من عام 2013 أمكن إجلاس كل أطراف النزاع إلى مائدة المفاوضات، وسنحت وقتها الفرصة لتقريب المواقف من أجل حل النزاع السوري، وبذلك كان من الممكن تلافي وقوع الكثير من الضحايا).
وواقع الحال فقد أقدمت روسيا على مساعدة سورية ونجدتها، عندما وصل أحد الأطراف المتنازعة إلى ضواحي دمشق، وكان قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة بالحكومة السورية.
ورأيي صراحة بهذا الصدد هو أن موسكو كانت على صواب، عندما لبت طلب بشار الأسد بتقديم المساعدة لسوريا، والدليل على ذلك ما نراه اليوم من واقع يقول بأنه باستثناء إدلب وبعض المناطق الأخرى من أراضي الضفة الشرقية للفرات، فإن شؤون الدولة تدار من جديد بيد حكومتها الشرعية.
وعلى أي حال، هنالك نقطة رئيسة لا يمكن إغفالها، تقول بأن بشار الأسد يعترف فقط بتلك الاتفاقيات التي تم التوصل إليها في مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، وفي الوقت ذاته، يُسقط من حساباته تماماً قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، باعتقادي أن هذا خطأ جسيم من جانبه، لأن هذا القرار قائم في بدئه على احترام سيادة سورية، وسيادة الشعب السوري صاحب القرار الأول في تقرير مصير بلده.
لا يمكن بأي حال من الأحوال إهمال أهمية جنيف، ولا يمكن موافقة بشار الأسد على الاستهانة بمؤتمر جنيف، وذلك لأن اللجنة الدستورية هي من مخرجات القرار الدولي 2254، وبالتالي هي جنيف بعينها، على الرغم من أن التحضير لها جرى في سوتشي، الذي عبرت وثائقه الصادرة عن الاستكمال الضروري لدعم مسار جنيف، بل أعلنتها صراحة، لولا جنيف لما كانت سوتشي، ولولا سوتشي لما كان ممكناً استمرار جنيف بالشكل الذي نراه اليوم، هذه حقيقة لا تخفى على أحد، إن رفض مسار جنيف أو الاستخفاف به يعني حكماً رفض القرار الدولي رقم 2254 الذي حاز على إجماع كامل في مجلس الأمن الدولي، ويعني ضمناً تفخيخ مسار سوتشي، والتحضير لنسفه نهائياً، لأن القرار 2254 يشكل أساسه القانوني، وبدونه يصبح المسار بلا هدف، خاصة فيما يتصل بإحداث التغييرات المطلوبة في سورية لضمان الحل السياسي الدائم للأزمة السورية، والذي يلتف حوله السوريون كلهم.
ثمة نقطة رئيسة يجب ألا تغيب عن أبصارنا، تقول بأن الدول الغربية تسيدت لمئات السنين في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية على كوكبنا، وظلت تحدد مسار تطوره. ولذا فهي تحاول الآن وقف التحول الجاري في العالم للانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب، وتعمل جاهدة على عرقلة بلوغ هذا الواقع اللا مفر منه.
فالولايات المتحدة الأمريكية والغرب لا يرغبان في التنازل عن تلك الهيمنة، ويخوضان الصراع ضد روسيا، وضد دول الشرق الأوسط، وضد كل من يتجاسر بقول كلمة (لا) لهما.
ومثلما نرى، السياسة الأمريكية كثيراً ما تُمارس وفقاً لأسلوب (التجربة والخطأ)، والذي كثيراً ما يُفضي بدوره إلى اندلاع الخلافات والأزمات في شتى المستويات، والتي تعاني منها دول الشرق الأوسط اقتصادياً في المقام الأول، فضلاً عن ضياع استقرارها السياسي.
ومن المفارقات التي تثير الدهشة، أن حق الشعوب في تقرير المصير يُعلن ويُقرر بلا جدل إذا كان يستجيب لمصالح الغرب، أما إذا كان عكس ذلك، فهو حق غير مشروع، والدليل هو مثال القرم، حيث أجرى سكانه استفتاءهم، بينما في كوسوفو لم يجرِ أي استفتاء، ومع ذلك ترفض غالبية الدول الغربية الاعتراف به كدولة مستقلة.
وبالعودة إلى موضوعنا الرئيسي بشأن الأزمة السورية، لا أجدني مخطأ أو مغالياً إذا قلت بأنه بفضل موقف موسكو المبدئي الثابت الموجَّه نحو حفظ السلام العالمي والمساواة بين الدول والشعوب، أمكن التوصل إلى اتفاق بين تركيا وإيران وروسيا على حل هذه المشاكل ذات الأهمية الدولية البالغة.
اقرأ المزيد في قسم الاخبار
وقد أجمعت كل مشارب الرأي على أن نجاح موسكو في إجلاس إيران وتركيا إلى مفاوضات في إطار عملية أستانا، وأثناء أكثر الأوقات توتراً في الشرق الأوسط، قد أنقذ العالم الإسلامي عملياً، وبدون مبالغة، من الانقسام والمجابهة بين السنة والشيعة. روسيا بالذات هي التي بادرت بطرح فكرة النقاش الشامل لتطور سورية سلمياً، وقامت بجمع ممثلي كل أطياف وفئات المجتمع السوري في سوتشي: مشايخ القبائل بحضور شيوخها ومشاركتهم مع ممثلي مختلف التجمعات والحركات التي خاصمت بعضها البعض من وقت لآخر.
واليوم تنسق موسكو مع حكومة سورية الإجراءات الواجب اتخاذها من أجل خلق الظروف المواتية لعودة اللاجئين، وهي خطوة ضرورية لسوريا من أجل الحفاظ على سلامة البلاد، ومن أجل عدم التفريط في السيطرة على حقول نفطها.
وثمة نقطة رئيسة، لا تغيب عن بصري، واستميح القارئ عذراً من أن أقفز إليها، وهي تتعلق بلقاء القمة بين روسيا والاتحاد الإفريقي، فأقول بأن لقاء سوتشي قد أظهر بلا جدال، بأن روسيا والاتحاد الإفريقي متمسكان بوجهة نظر متشابهة بشأن سبل تطور دول القارة الإفريقية.
فقد ظلت إفريقيا لسنوات طويلة منجماً للدول الغربية، تنهب ثروات الأفارقة دون رادع أو وازع من ضمير، وها هو لقاء سوتشي يعقد أمام أعين العالم، ومن بينهم زعماء القارة الإفريقية الذين تابعوه أيضاً عن كثب، وهم يدركون ضرورة حماية استقلالهم وسيادتهم وثرواتهم الطبيعية والبشرية، ومن هنا نشأت الرغبة للتعاون مع روسيا، إذ بات واضحا للكثيرين بأن موسكو تملك القدرة والإمكانية لمساعدة دول القارة الإفريقية على التطور بنجاح وبشكل مثمر، ليس سياسياً فحسب، بل وأيضاً في مجال الطاقة بالدرجة الأولى.
والأهم هنا ألا نغفل قدرة روسيا على تقديم المشورة لشعوب القارة الإفريقية بشأن أفضل السبل لاستغلال ثرواتها الطبيعية من أجل القضاء على الفقر الموقع الذي يهدد استقرارها، ويشكل بؤرة مواتية للقرصنة والسرقة والنهب والإرهاب.
وها هي روسيا تظهر بصورة جلية قدرتها على تحقيق المستوى العالي من التفاهم المتبادل مع الدول الإقليمية، وكذلك قدرتها على مراعاة مصالح شركائها بذات القدر الثري تراعى به مصالحها. وبفضل هذا الموقف المبدئي والواعي لا يدهشنا انضمام جمهورية جنوب إفريقيا إلى مجموعة (بريكس) التي تضم معها روسيا والهند والصين والبرازيل، ولا شك أن ما يتحقق من نجاح وإنجازات في إطار هذه المجموعة الدولية سيكون نبراساً ومثالاً للدول الإفريقية، ليحقق ما تسعى إليه آمال وأماني من التطور والرقي، خاصة بعد القمة الأولى الروسية الإفريقية التي أشعلت هذا الأمل لديها.
وأجرى فلاديمير بوتين 16 لقاءً ثنائياً مع زعماء الدول الأفريقية. لكن أهم ما يمكن أن يُشار إليه هنا هو حصاد هذه القمة الروسية الأفريقية التي كللت بتوقيع أكثر من 50 عقداً بقيمة إجمالية تصل إلى 800 مليار روبل، أغلبها يخص المجالات التقليدية لروسيا، وهي التكنولوجيا الفضائية والنووية، وكذلك التعليم، وفي هذا الصدد أود التذكير بأنه في الحقبة السوفييتية استضافت المعاهد والجامعات أكثر من مائة ألف طالب أفريقي، ونود أن تستمر هذه التجربة أيضاً في الوقت الحالي.
ومن الجدير أيضاً أن يُقام تمثال للمناضل الأفريقي البارز باتريس لومومبا بجواز جامعة صداقة الشعوب، تخليداً لذكراه كرمز لنضال الشعوب الأفريقية من أجل استقلالها، وحتى وإن كان اسمه لم يعد يُطلق على هذه الجامعة الآن، فهو جدير بأن يُعاد إليها.
رامي الشاعر-كاتب ومحلل سياسي
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة
RT