الشمال السوري: تحولات تنذر بتكرار “السيناريو القبرصي”
وضعت القمة الأخيرة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب اردوغان في سوتشي خارطة طريق مبدئية تبعد شبح الحرب التي أعلنتها تركيا ضد الأكراد في شمال شرق سوريا، وذلك بعد تخلي الولايات المتحدة الأميركية عن قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، وذلك عبر مجموعة إجراءات ميدانية وسياسية تحت رقابة وضمانة روسية.
أنهى الاتفاق الروسي التركي بنقاطه العشر، معركة “نبع السلام” قبل أن تبدأ فعليا، عن طريق سحب السبب الذي بنيت عليه العملية أساساً وهو “خطر الأكراد”، فتضمن سحب المقاتلين الأكراد من المناطق الحدودية، وإدخال قوات من حرس الحدود في الجيش السوري إلى 15 نقطة حدودية، بمشاركة روسية، (حسبما أوضحت خريطة نشرتها وزارة الدفاع الروسية)، كما ضمن لتركيا إجراء دوريات مراقبة مشتركة مع الشرطة العسكرية الروسية للتأكد من تطبيق بنود الاتفاق.
الاجتماعات الماراثونية الروسية – التركية لم تنته دون تحقيق أنقرة مكاسب ميدانية هامة، إذ ضمنت للقوات التركية والفصائل السورية التي تقاتل تحت أمرتها منطقة “آمنة” (المنطقة الممتدة من رأس العين الى تل أبيض)، تضاف إلى منطقتي “غصن الزيتون” و”درع الفرات” (اعزاز، الراعي، صوران، أخترين، مارع، عفرين، الباب، قباسين، بزاعة، وجرابلس)، مع الحفاظ على سيطرة الجيش السوري على مدينة منبج، واستبعاد القامشلي التي توجد فيها نقاط للجيش السوري أساساً من منطقة الرقابة الروسية التركية.
تغييرات ديموغرافية
تسبب تخلي الولايات المتحدة عن “قسد” في معركتها ضد الأتراك بضربة كبيرة للمشروع الكردي في الشمال الشرقي من سوريا، الأمر الذي لم يترك لـ”قسد” خياراً سوى اللجوء إلى الحكومة السورية، فعقدت اجتماعات عسكرية بين الحكومة السورية و”قسد”، أفضت إلى مجموعة اتفاقات لم تظهر جميعها للعلن بعد، إلا أن ما رشح من هذه الاتفاقات أنها سمحت بدخول الجيش السوري إلى منبج التي تسيطر عليها “قسد”، وعودة الحكومة السورية بمؤسساتها إلى حي الشيخ مقصود في حلب الذي كان خاضعاً لسيطرة “قسد”، بالإضافة إلى كامل الحسكة، مع الحفاظ على القوام العسكري لـ”قسد”، وسط أنباء عن مشروع روسي لدمجها بقوات “الفيلق الخامس” الذي تشرف عليه روسيا، وهو ما لم تتضح معالمه بعد.
كذلك، من المتوقع أن تشكل المنطقة الممتدة بين رأس العين وتل أبيض بعمق 32 كيلومتراً عن الحدود التركية والتي ضمن الاتفاق سيطرة أنقرة عليها، ملاذاً جديداً للفصائل المسلحة الموجودة في إدلب، إذ يجمع عدد من المحللين السياسيين والعسكريين السوريين، على أن تركيا ستعمل على نقل الفصائل التابعة لها من إدلب إلى هذه المنطقة، إضافة إلى استغلال هذه المنطقة لنقل لاجئين سوريين من تركيا إليها، الأمر الذي يأتي في سياق عمليات التغيير الديموغرافية التي اتبعتها تركيا بعد سيطرتها على مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، حيث خرج السكان المحليون (الكرد) من مناطق عفرين وتم توطين سكان جدد يتبعون كلياً لتركيا.
ومنذ اللحظة الأولى للتدخل العسكري التركي في سوريا، أبدى عدد من المحللين السوريين تخوفهم من تكرار “سيناريو قبرص” في الشمال السوري.
ويشدد الكاتب والمحلل السوري ريزان على أن “تركيا تعمل بشكل واضح على إنشاء جدار بشري داخل الأراضي السورية (على غرار الجدار الاسمنتي التي بنته على طول الحدود السورية التركية)”، ويقول لموقع (180):”جدار بشري هو نتاج عملية تغيير ديمغرافي وفرز دقيق للسوريين وغير السوريين المراد توطينهم في مستوطنات تركية على الأراضي السورية”، ويتابع أنّ “هذا المشروع يهدف إلى تحقيق نقاط عدة أبرزها السيطرة على الشمال السوري عبر إنشاء مستوطنات تضم الحاضنة الشعبية للرئيس التركي ولتنظيم الاخوان المسلمين، إضافة إلى أنه خطوة على طريق تكرار السيناريو القبرصي، أي إنشاء دولة شمال سوريا على غرار دولة شمال قبرص”.
“الإخوان” ومخططات “السلطان”
منذ بداية الأحداث في سوريا العام 2011، ظهرت جماعة “الاخوان المسلمين” في سوريا كورقة ضغط سياسية حملها وزير الخارجية التركي حينها أحمد داود أوغلو إلى دمشق ضمن “المبادرة” التركية لحل الأزمة السورية، حيث تضمنت الورقة، والتي رفضتها دمشق، إجراء تغييرات حكومية تضمن ثلث الحقائب الوزارية للجماعة المحظورة في سوريا.
مع توالي الأحداث وتنامي نفوذ الجمعات المسلحة، لم تغب “الجماعة” عن الساحات الميدانية أو السياسية، حتى لم يكن ظهورها باسمها الرسمي، إذ تنوعت الأسماء والتشكيلات، وظل الفكر واحد.
قبل إطلاق تركيا معركة “نبع السلام”، الأخيرة، والتي توقفت بعد الاتفاق آنف الذكر، أعادت تركيا هيكلة الفصائل المسلحة التابعة لها ضمن هيئة جديدة أطلق عليها اسم “الجيش الوطني”، وهو نتاج مراحل عدة من عمليات الدمج والفرز التي أجرتها تركيا للفصائل المسلحة خلال الأعوام الماضية، حيث انصهرت معظم الفصائل المسلحة في بوتقة هذا التشكيل الجديد الذي يقوده “سليم إدريس”، ويتبع لـ”الحكومة المؤقتة”، التي يغلب عليها الطابع “الاخواني”، وتتبع بشكل مباشر لسلطة أنقرة، الأمر الذي حوّل هذا “الجيش” بشكل مباشر وغير مباشر إلى “جيش ذي طابع إخواني”.
كذلك، لم يغب الشمال السوري عن المخططات التركية التي انتهجت فيه مجموعة متوازية من الإجراءات التي تضمن المصالح التوسعية التركية. وفي هذا السياق يشرح الكاتب السوري المختص بالشأن التركي سركيس قصارجيان أن “الذهنية الاردوغانية تؤمن بضرورة ظهوره كسلطان تركي متمسك بالميثاق الوطني التركي الذي يضم كلاً من ولايتي حلب والموصل وبالتالي شمال سوريا والعراق إلى تركيا وهو ما تحدث عنه اردوغان مراراً، وظهر بشكل واضح عندما طلب بتغيير خرائط لوزان بعد مرور مئة عام من توقيع الاتفاقية التي جرى توقيعها العام 1923، والتي رسمت الحدود بين سوريا وتركيا، قبل أن يتم لاحقاً السيطرة على لواء اسكندرون وضمه إلى تركيا”.
كذلك، أعلنت تركيا مراراً سعيها لإنشاء “منطقة آمنة” تمتد من منبج حتى الحدود العراقية وبعمق 32 كيلومترا، تحت قيادة “الحكومة المؤقتة” و”الجيش الوطني” الاخواني.
هذه المخططات، وما خلص إليه الاتفاق الروسي – التركي الأخير في سوتشي، دفع المحللين السوريين إلى اعتبار هذا الاتفاق “ضربة للمشروع الاردوغاني”، حيث يشير قصارجيان إلى أن “المناطق التي تسيطر عليها تركيا لم تعد ممتدة، كما ضمن الاتفاق إحاطة الجيش السوري بهذه المناطق، والوصول إلى المناطق الحدودية، بمشاركة روسية”.
بدوره، يرى الكاتب والمحلل السياسي الدكتور محمد كمال الجفا أن المنطقة التي دخلتها تركيا “لا تحقق طموحاتها ولا أطماعها في سوريا ولا تمنحها الجزء اليسير مما كانت تحلم به”، موضحاً أن “الإصرار على عدم التخلي عن عين العرب ومنع وصلها بجرابلس واعزاز وعفرين أسقط آخر حلم لاردوغان بأن يفرض أمراً واقعاً جغرافياً وديموغرافياً يحقق فيه أهدافه في إكمال عملية التتريك التي بدأها في عفرين واعزاز”.
اقرأ المزيد في قسم الاخبار
ويرى الجفا أن “المشروع الاخواني سقط وأصبح حلما يصعب تحقيقه وحتى لو أثمرت الضغوط التركية على قيادات الاخوان في تركيا باجبارهم على الانتقال إلى المنطقة العازلة، لن تستطيع هذه القيادات التأقلم مع بقايا قيادات عسكرية ميدانية غير منضبطة لها تاريخ طويل في القتل والسرقة وأعمال النهب الممنهج التي مارستها هذه القيادات على كامل الجغرافية السورية، وهؤلاء مختلفو الانتماء العشائري والمناطقي عدا عن التوجه التركي مؤخراً لتسليم القادة العسكريين من الأصول التركمانية معظم المناصب العسكرية الكبرى، وهذا لم يرق لمعظم القيادات العسكرية المرحّلة من حلب وحماه والغوطة ودير الزور وأوجد دائماً صدامات مسلحة لم تستطع تركيا ضبط إيقاعها أو إيقافها”.
“قسد” ودور جديد
على الرغم من التقارب بين الحكومة السورية و”قسد” إثر الوساطات الروسية، والاتفاقات الأخيرة، مازالت “قوات سوريا الديموقراطية” تسبح في الفلك الأميركي، برغم تراجع واشنطن بشكل جزئي عن الانسحاب من سوريا بشكل نهائي، حيث حرص الرئيس الأميركي دونالد ترامب على وجود قواته في المناطق النفطية في منطقة الجزيرة السورية.
في هذا السياق، يقول قصارجيان: “كانوا (قسد) منذ البداية ورقة سياسية وأداة عسكرية بالنسبة للولايات المتحدة، برغم الحديث عن تحالف، وهو ما كان جلياً في تغريدات ترامب حول المبالغ التي يتم دفعها لمقاتلي قسد، وبالتالي وضعهم في خانة المرتزقة”، ويتابع: “واشنطن ستعمل على تغيير الدور الذي تلعبه قسد ميدانياً، فعندما تتحدث عن إبقاء جنودها قرب منابع النفط، فإنها تشير إلى التعامل مع الكرد كمجرد نواطير للمصالح النفطية الأميركية في المنطقة”.
إدلب و”ساعة الصفر”
على الرغم من الرسائل العسكرية والسياسية لزيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى جبهات القتال في إدلب، قبيل إنعقاد القمة الروسية التركية الأخيرة، يبقى تحديد موعد العملية العسكرية أو دخول الجيش السوري إلى إدلب مرهوناً بالحراك السياسي النشط حول الشمال السوري، خصوصاً أن الاتفاق الروسي التركي الأخير في سوتشي لم يتطرق إلى إدلب بشكل مباشر، إذ اكتفى الاتفاق بالإشارة إلى “استمرار الجهود في محاربة الإرهاب”.
ويقول المحلل والكاتب السوري محمد نادر العمري أن “روسيا نجحت خلال الفترة الماضية في إحداث ثلاثة خروقات، الأول، هو تهيئة الأجواء لإجلاس “قسد” على طاولة الحوار مع الحكومة السورية والاتفاقات التي نجمت عنها، والثاني، هو العمل على إعادة العلاقات السورية مع الدول العربية، خصوصاً السعودية التي زارها فلاديمير بوتين مؤخرا، والعمل على إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، والثالث، هو التأكيد على العودة إلى اتفاقية أضنة الموقعة بين سوريا وتركيا والتي تضمن تعهد الطرفين بعدم دعم الجماعات الإرهابية، وبالتالي توقف تركيا عن دعم جبهة النصرة”، ويتابع: “كل ذلك مرهون بابتعاد الولايات المتحدة عن المشهد السوري”.
وأياً كان شكل معركة إدلب التي يبدو أنها “حتمية”، وفق جميع المعطيات، والتي من المتوقع أن تشمل مناطق ريف اللاذقية أيضاً، فإن الشمال السوري على موعد مع تغييرات ميدانية عدة، سواء عودة إدلب إلى كنف الحكومة، أو وصول قوات حرس الحدود السورية إلى الحدود التركية، أو دفع الكرد نحو الداخل السوري، وقيام تركيا باستبدالهم بتركيبات سكانية جديدة ضمن مناطق غير متصلة، محمية بـ”جيش” يقوده “الاخوان” بشكل مباشر أو غير مباشر، كذلك تفتح هذه التغيرات الباب نحو تعقيدات سياسية جديدة، في انتظار المسار السياسي الآخر المتمثل باللجنة الدستورية المتوافق عليها وما سينتج عنها من مخرجات قد تساهم في حل بعض العقد، الأمر الذي يعني مزيداً من الانتظار، ومعه إستمرار غليان الميدان على نار هادئة.
علاء حلبي-180 بوست