مأزق استراتيجي لتركيا في سوريا
زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى واشنطن كانت مثقلة بالملفات الشائكة والساخنة، وأولھا الملف السوري والوضع في شرقي الفرات. وكان أردوغان قد ھدد بإلغاء الزيارة بسبب التوتر الحاصل بشأن سوريا وتصويت مجلس النواب الأميركي على الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، وفرض عقوبات على تركيا بسبب العملية العسكرية في شمال شرقي سوريا. لكنه تراجع عن ذلك بناء على دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. في الواقع، تعترض العلاقات التركية – الأميركية تحديات كثيرة منھا:
– رفض الولايات المتحدة اقتناء تركيا منظومة “إس 400” الروسية المضادة للطائرات والتي تقول واشنطن إنھا لا تتوافق مع دفاعات حلف الأطلسي (الناتو) وتھدد مقاتلاتھا من نوع “إف 35 “.
– أبعدت واشنطن تركيا عن برنامج مشترك لتصنيع وتطوير مقاتلات “إف 35” الأميركية.
– خلو تقرير وزارة الخارجية الأميركية حول الإرھاب لعام 2018، من تصنيف وحدات حماية الشعب الكردية على أنھا تنظيم إرھابي.
– تسليم فتح لله غولن، الذي تتھمه أنقرة بتدبير محاولة انقلاب فاشلة في 15 تموز 2016، وتعتبره تركيا إرھابيا وتطالب بإرجاعه إلى تركيا لمحاكمته.
زيارة أردوغان الى واشنطن مؤخراً، وصفت بالمهمة حيث التقى خلالها ترامب، وأجرى معه محادثات حاسمة في ظل الخلافات المحتدمة بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي، تجاه كثير من القضايا، أبرزھا مسألة الحدود السورية – التركية وإنھاء الأعمال العدائية مع الأكراد ومكافحة الإرھاب والتجارة والتطورات الإقليمية، ما أعاد خلط الأوراق من جديد.
اللقاء بين تركيا ووفد كبير من الإدارة الأميركية كان مؤشرًا على موقع تركيا القوي تجاه الولايات المتحدة والغرب. فقد تم الاتفاق على إعلان وقف العمليات لمدة 120 ساعة، على أن تنسحب في ھذه الأثناء “قوات سوريا الديموقراطية” بعمق 32 كلم وعلى عرض 444 كلم من شرق عين العرب/ كوباني، وصولًا إلى الحدود العراقية، كما يتم نزع السلاح الثقيل منھا. عقب ذلك، تعلن تركيا انتھاء العمليات العسكرية، على أن تتولى واشنطن المسؤولية عن انسحاب القوات الكردية. أيضًا، سيتعاون الجانبان التركي والأميركي على محاربة “داعش”. وسيكون الإشراف الأمني على “المنطقة الآمنة” للجيش التركي وحده. في المقابل، تتعھّد الولايات المتحدة بإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على تركيا، وبعدم فرض عقوبات جديدة. وتسعى تركيا من خلال الاتفاق مع الولايات المتحدة على رفع حجم التبادل التجاري بينھما إلى 100 مليار دولار إلى القفز على العقبات التي تواجھھا العلاقات واستخدام التجارة كسلاح فعال لإغلاق الملفات الخلافية والشائكة مع واشنطن.
اقرأ المزيد في قسم الاخبار
أما في موضوع الأكراد، فقد حسم الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراره بعدم الانسحاب العسكري الكامل من شمال شرقي سوريا، بحجة حماية النفط السوري ومنع سقوطه في أيدي “داعش”، ونشر الجيش الأميركي مدرعاته وآلياته قرب منشآت النفط والغاز، وعاد إلى تسيير دوريات شرق القامشلي، ذات البعد الرمزي للأكراد، لإعطاء الانطباع بأن واشنطن لم تخُن الأكراد. وتفيد تقارير أن السيناتور ليندسي غراھام أقنع الرئيس ترامب بالعدول عن قرار الانسحاب الكامل من سوريا بعدما أطلعه على خريطة تبيّن أن ثلاثة أرباع النفط السوري تحت حماية “قسد” والجيش الأميركي، وأن قوات أخرى متمركزة بالقرب من ھذه الحقول وستستولي عليھا في حال الانسحاب. وحماية النفط جاءت كحل يتيح لترامب فرصة البقاء في سوريا، ولو مؤقتا، من أجل امتصاص المعارضة وتلافي التھديدات السياسية التي نتجت عن قرار الانسحاب، ولكن ھذه المرة التواجد الأميركي له صيغة قد ترضي حاضنة الرئيس الشعبية. لم تكن لأميركا مصلحة مباشرة أو واضحة في سوريا يمكنها أن تقنع بها حاضنتها، ولكن الآن توجد الاستفادة المباشرة من حقول النفط.
إذاً، قرر ترامب الاحتفاظ بقوات لحماية النفط. بالإجمال، لم يتغيّر بشكل كبير عدد الجنود الأميركيين عما كان عليه قبل إعلان الانسحاب في منتصف تشرين الأول. لا تزال مسألة قانونية العملية الأميركية لحراسة حقول النفط موضع نقاش حتى داخل “البنتاغون”. كما أن دولًا أوروبية متحفظة على المشاركة في نشر قواتھا الخاصة بسبب العقبات القانونية، لأن وجود القوات البريطانية والفرنسية قائم على محاربة “داعش”، وليس حماية النفط. يُضاف إلى ذلك، أن “حجة النفط” عززت نظرية المؤامرة في أن التدخل الأميركي هو لأسباب اقتصادية ومصالح أميركية وليس لأسباب “أخلاقية”، ما قوّى من منطق موسكو ودمشق وأنقرة وطھران التي تشكك بأھداف وشرعية الوجود الأميركي.
وفي مقابلة مع وكالة “سبوتنيك” وقناة “روسيا-24” وفي السياق نفسه، أشار الرئيس السوري بشار الأسد إلى أن “تجربة العراق لا تزال ماثلة للأميركيين، كانت النتيجة غير المتوقعة بالنسبة لهم، ولكننا كنا نراها نحن في سوريا، وقلت أنا في إحدى المقابلات بعد غزو العراق عام 2003 إن الاحتلال سيولد مقاومة عسكرية”. وأكد الرئيس السوري:”أن بلاده ستقدم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي بشأن سرقة أميركا للنفط السوري، مستبعداً قيام الأمم المتحدة بأي خطوة بهذا الصدد، وذلك لأن كل الشكاوى التي تُرفع للأمم المتحدة تبقى في الأدراج، لأن هناك شبه دولة [أميركا] تحكمها العصابات وتنطلق من مبدأ القوة، وكما كنا نقول قبل قليل هم مجموعة لصوص والصراع بينهم هو صراع على الأرباح والمكاسب والخسائر”.
ورغم أن الدوائر السياسية الروسية تنظر بعين القلق حول عقد الاتفاقات التركية – الأميركية، فإن تركيا تبقى رغم جميع الخلافات القائمة شريكا مھما لروسيا فهي غير مستعدة لمزيد من تعقيد العلاقة مع تركيا، بل ظھر أنھا تنحو نحو تكريس التعاون والتنسيق. وظهر ذلك في موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث قال إن بلاده لن تتراجع عن شراء “إس-400” لأنها في شراكة استراتيجية مع روسيا. إلا أنه لا بد من انتظار التطورات لفھم طبيعة ما تم التوافق عليه سواء بين تركيا وأميركا من جهة وبين تركيا وموسكو من جهة ثانية، فكل طرف منهم يحتاج إلى تهدئة للأوضاع في سوريا تفضي في نهاية الأمر إلى تسوية عادلة لكل القوى الإقليمية المتصارعة في سوريا تضمن في النهاية مصالحهم وأمنهم الاستراتيجي.
سركيس أبوزيد-العهد