معركة “ولاتهنوا”… ردّ تركي لعرقلة التفاهمات!
عبدالله سليمان علي
تراجعت حظوظ التفاهمات السياسية في الشمال السوري جرّاء اصطدامها بخلافات اللاعبين في ما بينهم، مفسحةً المجال أمام عودة التصعيد العسكري إلى واجهة المشهد من جديد.
في وقت برز إصرار قوات سوريا الديمقراطية على عدم الانسحاب من تل تمر وعين عيسى، ما يعني تعقيد تنفيذ الاتفاق الروسي – التركي شرق الفرات، شهدت منطقة خفض التصعيد في إدلب إطلاق معركة جديدة تحت اسم “ولا تهنوا” تحمل في توقيتها وسياقها العديد من الدلالات والمؤشرات.
وبلغ الستاتيكو السياسي ذروته مع إخفاق الجولة الثانية من أعمال اللجنة الدستورية نتيجة خلافاتٍ، لم تستطع الأطراف تجاوزها، على تحديد جدول أعمال الجولة. وقد انفضّ المجتمعون في جنيف من دون الاتفاق على موعد انعقاد الجولة الثالثة، الأمر الذي ترك المسار برمته في مهب الريح ومهب الكباش الاقليمي والدولي.
ولم تكن اللجنة الدستورية وحدها التي وصلت إلى حائط مسدود، فالتفاهمات الأميركية – التركية والروسية – التركية بخصوص شرق الفرات، لم تكن بدورها أحسن حظاً، حيث عجزت هذه التفاهمات بعد إحرازها تقدماً محدوداً، عن خلق ديناميات قادرة على التعامل مع حالات الاستعصاء التي واجهتها وخصوصاً في تل تمر وعين عيسى.
وجاء إعلان مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية يوم أمس عن رفضه “تسليم البلدتين للقوات الروسية أو القوات الحكومية السورية وأنهما ستبقيان تحت سيطرة قواته (قسد)” ليزيد من تعقيد الوضع ويشرّع الباب أمام مروحة واسعة من الاحتمالات التي يمكن أن تشهدها المنطقة خاصة في ظل تهديد أنقرة باستئناف عمليتها العسكرية “نبع السلام”.
انفضّ المجتمعون في جنيف من دون الاتفاق على موعد انعقاد الجولة الثالثة، الأمر الذي ترك المسار برمته في مهب الكباش الاقليمي والدولي
خطوط التماس في شرق الفرات باتت تفصل بين قوات أربعة جيوش (الأميركي الروسي السوري والتركي) وتنطوي على حساسية عسكرية عالية جداً، بحيث يمكن لأي خطأ أن يتسبب في انزلاق اللاعبين نحو مواجهات واسعة لا يريدها أحد منهم. لذلك من الواضح أن ثمة تفاهماً غير معلن بين تلك الأطراف يقضي بوجوب الامتناع عن اتخاذ أي خطوات أو إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى وقوع صدام بين قوات هذه الجيوش. ويقضي كذلك بوجوب إبقاء أي تصعيد من هذا الجانب أو ذاك تحت سقف التفاهمات الثنائية التي ارتسمت من خلال تقاطعاتها الخطوط المبدئية لخريطة توزع الجيوش ومنطقة نفوذ كل منها.
وبناءً على ذلك، كان من البديهي أن يبحث الأفرقاء عن جبهة أخرى لاستخدامها في توجيه الرسائل والردود المتبادلة. وليس هناك عملياً سوى جبهة إدلب التي تحولت إلى ما يشبه صندوق البريد القادر على تحمّل رسائل مختلف الأطراف منعاً لانفجار الوضع في شرق الفرات.
وقام الجيش السوري، خلال الأسبوع المنصرم، بعملية عسكرية محدودة مكّنته من السيطرة على بعض القرى في ريف إدلب الجنوبي. وساد اعتقاد واسع آنذاك بأن هذه العملية لم تكن سوى رسالة للضغط على أنقرة من أجل عدم التمادي في تصعيدها على جبهة عين عيسى.
تحولت جبهة إدلب إلى ما يشبه صندوق البريد القادر على تحمّل رسائل مختلف الأطراف منعاً لانفجار الوضع في شرق الفرات
في هذا السياق، أطلقت الفصائل المسلحة في إدلب يوم أمس هجوماً جديداً أطلقت عليه اسم “معركة ولا تهنوا” طال عدداً من القرى في جنوب شرق إدلب. ونظراً لتركيبة غرفة العمليات التي تقود هذه المعركة، فإنه من الممكن القول أن اعتبارات عسكرية وسياسية مختلفة تقف وراء إطلاقها، وأن أهداف الفصائل المشاركة فيها ليست بالضرورة موحدة أو متطابقة.
وأوّل ما يلفت الانتباه هو أن الفصائل المحسوبة على أنقرة والتي كان يقال أنه يجري تجهيزها للقتال ضد الارهاب تنفيذاً لاتفاق سوتشي، لم تعد تجد حرجاً في التحالف من جديد مع “هيئة تحرير الشام” وغيرها من الفصائل المصنفة على قائمة الارهاب الدولي مثل “أنصار التوحيد” و “كتيبة الامام البخاري” و”أجناد القوقاز”.
ويشير تشكيل غرفة عمليات موحدة تجمع بين “الجبهة الوطنية للتحرير” المدعومة تركياً، والفصائل السابقة، إلى استخفاف تركيا بالتزاماتها بموجب سوتشي أو ربما خروج الأمور عن سيطرتها وعدم قدرتها على ضبط الفصائل التي تدعمها، وهذا احتمال أشد سوءاً من سابقه بالنسبة لصورة أنقرة ودورها.
لم تعد الفصائل المحسوبة على أنقرة تجد حرجاً في التحالف من جديد مع “هيئة تحرير الشام”
وأيّاً يكن الأمر، فإن أنقرة ما زالت تمسك بالخيوط الرئيسية للعديد من الفصائل في إدلب، لذلك لا يمكن تفسير مشاركة الأخيرة في المعركة إلا على أنه رسالة من تركيا أرادت توجيهها للتعبير عن عدم رضاها عما يجري في شرق الفرات ولا حتى في إدلب نفسها. وقد يكون فحوى الرسالة أن عدم إجبار قوات قسد على الانسحاب من الطريق الرئيسي M4 في تل تمر وعين عيسى سيكون جوابه منع الجيش السوري من التقدم نحو معرة النعمان التي يمر بها ذات الطريق. والعكس صحيح أيضاً بمعنى أن تركيا لا ترغب برؤية تقدم الجيش السوري إلى مشارف الطريق في معرة النعمان بينما أجزاء الطريق في تل تمر وعين عيسى لم يحسم مصيرها بعد. هذه الرغبة التركية قد تكون تلاقت مع رغبة فصائل أخرى قضت بضرورة استباق تحضيرات الجيش السوري للقيام بعملية واسعة باتجاه مدينة معرة النعمان، حسب ما ذكرت بعض التقارير الإعلامية، والعمل على إرباكه وتشتيت جهوده من خلال استهداف تحشيداته ونقاط انطلاقه المتوقّعة، بهدف عرقلة العملية وتأخير موعدها.
وعلى الرغم من أن “معركة ولا تهنوا” لا تخرج عن كونها معركة محدودة بالمفهوم العسكري، وليس بمقدورها إحداث أي تغيير استراتيجي في خرائط توزع السيطرة، فإن أهميتها تكمن في أمرين أساسيين: الأول هو ما تستبطنه من دلالات سياسية وتأشيرها على أن حالة الستاتيكو التي تطغى على المشهد السياسي السوري بمختلف جوانبه قد تؤدي إلى إشعال الجبهات من جديد خلافاً لما أكدت عليه موسكو سابقاً من أن العمليات العسكرية الكبرى قد انتهت. والثاني أن أنقرة – وهو خيط يستحق المتابعة- لم يعد بمقدورها القيام باي عمل عسكري بشكل منفرد. فإذا كانت في شرق الفرات تحتاج قبل أي تقدم أو اجتياح إلى ضوء أخضر أميركي، وحالياً أضيف إليه آخر روسي. فإنها في إدلب تجد نفسها مضطرة إلى العمل إما بالشراكة والتحالف مع فصائل إرهابية أو تحت غطاء توفره لها هذه الفصائل.
ويعكس ما سبق مدى التعقيد الذي يحيط بالدور التركي في سوريا، وأنه بات محكوماً بحسابات واعتبارات قد لا تتمكن أنقرة من ضبطها على إيقاع سياستها في كل مرة.
180Post