عزل ترامب: فيلم أميركي طويل!
بلغت المواجهة بين دونالد ترامب والكونغرس نقطة الذروة. تصويت مجلس النواب الاميركي على الشروع في إجراءات المحاكمة، التي قد تفضي إلى عزل الرئيس، يعكس تحوّلات خطيرة في لعبة سياسية خطيرة، يبدو ظاهرها انتخابياً، ولكنها تمثل في جوهرها “العقدة الدرامية” في فيلم اميركي طويل بمشهدية استقطاب غير مسبوق منذ الحرب الأهلية!
“ماذا فعل ترامب إزاء عشرات التحقيقات والاستجوابات التي تشكك في أهليته كرئيس، وفي أنّ الروس هم من وضعوه في البيت الأبيض؟ لقد وجدها فرصة يمكن استثمارها انتخابياً على طريقة تصاعد المعضلة الدرامية في الأفلام، حيث البطل سينتصر في النهاية على خصومه من الشيوعيين الأشرار، ضامناً في الوقت نفسه ثقة الجمهور ومعجبيه المخلصين، وحيث تعقد الأحداث لا يعني هزيمة بطل الفيلم في النهاية. ولكن الأبطال السينمائيين في هذا النوع م الأفلام لا يقومون عادة بأفعال غبية وهم في ذروة التصاعد الدرامي، مثلما فعل ترامب في الفضيحة الأوكرانية… علاوة على ان هذه النوعية من الأفلام لم تعد تجذب المشاهدين، فإنّ رئاسة الولايات المتحدة ليست فيلماً سينمائياً كما يعتقد ترامب”.
هكذا علق السيناريست والممثل وعضو مجلس الشيوخ الأميركي عن الحزب الديموقراطي، آل فرانكن، على سلوك الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال ولايته الرئاسية الأولى، وطريقة إداراته لمختلف الملفّات في الداخل والخارج، وخاصة المتعلق منها بالتحقيقات والشبهات التي تلاحقه منذ دخوله البيت الأبيض، والتي مثل التصويت بالغالبية على دعوى عزله في مجلس النواب ذروتها.
تصويت مجلس النواب أتى بعد حوالي ثلاثة أشهر من المداولات وجلسات الاستماع التي أعقبت قرار رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، في أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، بفتح تحقيق ضد ترامب على خلفية بلاغٍ قدّمه موظف في الاستخبارات الأميركية إلى لجنتي القضاء والاستخبارات في مجلس النواب، اتهم فيه الرئيس الأميركي بمساومة نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على حزمة مساعدات أميركية تقدر بـ400 مليون دولار، في مقابل توجيه الأخير النائبَ العام الأوكراني باتهام نائب الرئيس الأميركي السابق والمرشح الرئاسي المحتمل عن الحزب الديموقراطي جو بايدن، في قضايا فساد مالي وتربح، وذلك عبر إعادة فتح التحقيق في قضية شركة “بوريزما” للغاز الطبيعي، التي كان ابنه هانتر بايدن، عضواً في مجلس إداراتها في العام 2014.
“عرقلة وتعطيل الكونغرس”
قرار النواب الأميركي بعزل ترامب كان متوقعاً بالنظر إلى امتلاك الحزب الديموقراطي الغالبية في مجلس النواب، ولكن المفاجأة هي أن مواد الدستور التي تم التصويت على العزل بموجبها، لا تُدرج الدعوى ضمن جريمة “إساءة استخدام السلطة” فحسب، بل تضيف إليها جريمة “عرقلة وتعطيل الكونغرس”، والتي تعد ثاني أخطر جريمة قد يدان بها موظف فدرالي أميركي، بعد الخيانة العظمى، وتُعد الحيلولة دون وقوعها ومعاقبة مرتكبها، حتى وإن كان رئيساً أو قاضياً، على رأس مهام مجلس النواب واعضائه، بصفتهم الممثلين عن الشعب الأميركي في مراقبة المسؤولين الحكوميين، وليس فقط تشريع القوانين.
بهذا الاتهام يكون ترامب قد تجاوز كلاً من بيل كلينتون وأندرو جاكسون، اللذين واجها دعوات العزل بسبب جرائم كانت أخف وطأة من جريمة “عرقلة عمل الكونغرس” (إساءة استخدام السلطة والكذب تحت القسم في حالة كلينتون)، وإن لم يصل أي منهما إلى مرحلة المحاكمة، كما هي الحال الآن مع ترامب، الذي يتقاطع بذلك مع ريتشارد نيسكون -برغم عدم وصول فضيحة “ووترجيت” إلى مرحلة التصويت للعزل في الكونغرس – في ما يتصل بتهم التلاعب واستغلال السلطة للتأثير في نتائج الانتخابات، مع فارق أخطر في حالة ترامب، وهو أنه طلب تعاوناً من جهة أجنبية، بدلاً من الاكتفاء باستخدام سلطته الداخلية كرئيس للولايات المتحدة.
من ناحية أخرى فإن قرار العزل بسبب هذه الجريمة بالذات، يظهر أمام الرأي العام الأميركي أن ما يقوم به الديموقراطيون ليس استهدافاً سياسياً لشخص ترامب أو لإدارته كما يزعم، وليس محاولة لكسب النقاط في سياق تنافسهم مع الحزب الجمهوري، وإنما إجراءاً حاسماً لحماية وصيانة مؤسسة “الشعب” من تعدّي ترامب أو غيره عليها، والمحافظة عليها عبر الكونغرس، ومنع استئثار الرئيس بها، وتحوله إلى طاغية وفق التفسير الراديكالي لنظرية الرئيس “التنفيذي الأوحد”، التي تعني إيجازاً أن لا قرار خاطئاً للرئيس خصوصاً في أوقات الحروب والأزمات، وذلك بصفته وكيلاً للشعب الأميركي يقرر مصلحته بنفسه بحسب الدستور، ما يمنح الرئيس صلاحيات واسعة المدى قد تصل إلى الحكم المطلق، وهو الأمر الذي غالباً ما يلوّح به متطرفو الجمهوريين في الإدارات الأميركية المختلفة عند حدوث أزمات سياسية داخلية.
تعميق الاستقطاب
رد فعل ترامب جاء حصراً لمؤيديه بخطاب يستغل ويُذكي الاستقطاب الداخلي في الولايات المتحدة، والذي لم يحدث بهذه الدرجة منذ الحرب الأهلية، وذلك باستخدام مصطلحات دعائية تصور مسألة عزلة على أنها “مؤامرة من يساريي الحزب الديموقراطي”، وتشديده على أهمية بقائه كرئيس لأربع سنوات مقبلة من أجل وحدة الجمهوريين، لا بل استمرار وجودهم!
ومن ناحية أخرى، فإن إدارة ترامب مستمرة في أداء التهوين والسخرية والتشكيك في الادعاءات والاتهامات الموجهة لترامب، وتطوير هذا الأداء من خلال التوافق مع موسكو على إفصاح أمني رسمي تقوم به الأخيرة يبرئ ترامب من تهمة تدخل الروس في انتخابات2016، وهو ما يعتبره ترامب ومؤيدوه الركيزة التي بدأت منها كل التهم والشبهات التي تلاحقه، وبالتالي فإن خطوة كهذه قد تنسحب على باقي الاتهامات وأهمها “الفضيحة الأوكرانية”.
الملفت هنا أن نانسي بيلوسي قررت إرجاء تحويل قرار العزل إلى مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية، وهو ما استغله ترامب بالقول إن “التأجيل فضح خديعة العزل ككل، فسرعة تحويل القضية إلى الكونجرس ستثبت أن ثمة خديعة… فهي (بيلوسي) لا تريد أن يشهد السياسي الفاسد آدم شيف تحت القسم ولا أن يمثل كل من بايدن ونجله ومقدم البلاغ للشهادة أمام مجلس الشيوخ”.
وبعيداً عن شخص ترامب وردود أفعاله، يبدو أن للديموقراطيين هدفاً سياسياً أبعد من شعارات العدالة والحفاظ على الدستور، فتأجيل بيلوسي إحالة قرار العزل إلى مجلس الشيوخ، المنوط به تشكيل هيئة محاكمة ترامب، بحجة عدم تقديم المجلس ضمانات عن شكل وآلية عمل المحاكمة وكيفية استدعاء الشهود وحمايتهم، يدل على أن حالة التربص والاستقطاب بين الحزبين ليست محصورة داخل جدران بـ”الكابيتول هيل“، وقد تمثلت في أن التصويت لم يحصل على تأييد نائب جمهوري واحد، وهي واقعة نادرة الحدوث، كما تصويت العزل نفسه.
ولكن هذا الاستقطاب الذي دأب ترامب والحزب الجمهوري على تجذيره وتوظيفه يمكن أيضاً أن يستخدمه الديموقراطيون في أوساط مؤيدي الجمهوريين التقليدية.
خيارات الجمهوريين.. ترامب أم الناخبين؟
السابق بدأت بشائره عبر عدد مجلة “كريستيانتي توداي” لسان حال المحافظين البروتستانت الأميركيين الذين يعدون مؤيدين كلاسيكيين للحزب الجمهوري، حيث دعت المجلة إلى إزاحة ترامب من الرئاسة بعد التصويت بعزله، وهو ما وصفته صحيفة “الغارديان” البريطانية بأنه “تحوّل بالغ الدلالة في أوساط من يعدون ركيزة أساسية لمؤيدي ترامب”.
سلوك الديموقراطيين يشي بأن هدفهم النهائي من محاصرة ترامب بالاتهامات والشبهات المختلفة منذ دخوله البيت الأبيض وحتى قرار العزل، هو تقويض وتقليص الشعبية الانتخابية للحزب الجمهوري ككل، وليس ترامب وحده؛ فالإطاحة به سواء بالعزل أو إجباره على الانسحاب من الانتخابات أو تقديم استقالته أو خسارته لانتخابات 2020 ليست كافية لإنهاء ظاهرته التي مثلت الاستثناء الأكثر تطرفاً بين الرؤساء الأميركيين الآتين حتى من خارج الحزبين والنخبة السياسية.
بالنسبة إلى الديموقراطيين، فإنّ عزل ترامب ليس كافياً لإنهاء ظاهرته التي مثلت الاستثناء الأكثر تطرفاً بين الرؤساء الأميركيين
يضاف إلى ما سبق أن مؤيدي ترامب الذين تطلق عليهم تسمية “ميغا هاتس “، والذين شكلوا خلال السنوات القليلة الماضية قوة إنعاش في الانتخابات الرئاسية للحزب الجمهوري أكسبته زخماً في ولايات كانت خارج نطاقه الانتخابي المعتاد، بدأت فاعليتهم في الخفوت، بحسب استطلاعات الرأي، ناهيك عن أن ولائهم لترامب لا يعني انتماءهم للحزب الجمهوري من حيث التصويت لاعضاء النواب والشيوخ وفاعلية ذلك في نظام المجمع الانتخابي، وبالتالي فإنّ تدهور فاعليتهم في ما يخص إعادة انتخاب ترامب قد تعني خسارة الجمهوريين لمقاعد في الكونغرس.
اقرأ المزيد في قسم الاخبار
ما سبق أوجزه ترامب في أول تغريده له بعد تصويت النواب، وجاء فيها “في الواقع أنهم لا يستهدفونني وبل يستهدفونكم أنتم.. أنا فقط عقبة في طريقهم”، وهي تغريدة لا تخاطب مؤيدي ترامب فحسب، وإنما الجمهوريين بشكل عام، سواء كانوا ناخبين أو ساسة، وهو ما اعقبه ترامب بالتأكيد على “وحدة الجمهوريين كما لم يكونوا من قبل”، في خطاب يشي بأنّ أولوية إدارة ترامب في الفترة المقبلة ستكون منصبة على إنهاء التباين بينه وبين تيارات داخل الحزب الجمهوري ترفض وتتحفظ على بعض سياساته وقراراته وخاصة الخارجية، ولكنها في نفس ذاته لا تريد أن تكون الغلبة للديموقراطيين وبالطريقة التي يريدون من خلالها إزاحة ترامب بها عن الرئاسة، خاصة وأن الجمهوريين ليست لديهم بدائل في الوقت الراهن عن ترامب، الذي أخرجهم من أزمة إيجاد مرشح جمهوري ذي شعبية في انتخابات 2016.
إسلام أبو العز-180 بوست