الشرق الأوسط ما بعد أمريكا
ريتشارد هاس، 18/12/2019
Project Syndicate
في الخامس من أغسطس/آب 1990، أي بعد أيام قليلة من غزو العراق، بقيادة صدام حسين، للكويت واحتلالها، كان الرئيس الأمريكي، جورج بوش الأب، واضحا خلال حديثه في الحديقة الجنوبية بالبيت الأبيض، حيث قال: “لن يستمر هذا الوضع، لن يستمر هذا العدوان ضد الكويت”. وعلى مدى ستة أشهر بعد ذلك، أثبت بوش أنه رجل صادق الوعد، حيث أرسلت الولايات المتحدة نصف مليون جندي إلى الشرق الأوسط، وقادت تحالفًا دوليًا حرر الكويت.
وبعد ثلاثة عقود، اعتمد رئيس أمريكي مختلف تمام الاختلاف، سياسة أمريكية مختلفة إلى حد كبير. إذ بعد أن تخلت الولايات المتحدة عن شركائها الأكراد في سوريا، الذين قاتلوا ببسالة لدحر تنظيم (داعش)، وقفت الإدارة الامريكية وقفة المتفرج، عندما هاجمت الطائرات بدون طيار، والصواريخ الإيرانية، منشآت نفط في السعودية، وعطلت نصف إنتاجها من النفط.
مرحبًا بكم في الشرق الأوسط ما بعد أمريكا. لأكن صريحًا، هذه العبارة مبالغ فيها شيئا ما، لأن الولايات المتحدة لم تنسحب من المنطقة. وفي واقع الأمر، لقد أرسلت، في الآونة الأخيرة، قوات إضافية للردع، وإذا لزم الأمر، للمساعدة في الدفاع عن السعودية من الهجمات الإيرانية المستقبلية، وربما للرد عليها مباشرة. ولكن لا مفر من حقيقة أن الولايات المتحدة قلصت من وجودها، ودورها في منطقة سيطرت عليها منذ نصف قرن تقريبًا.
وتعود جذور هذا الاتجاه إلى الرئيس جورج دبليو بوش، الذي أثبت قرارُه بشن حرب اختيارية غير مدروسة، وسيئة التصميم ضد العراق، أنه نقطة تحول في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وأدت التكاليف الباهظة لتلك الحرب، ونتائجها السيئة، إلى رفض الرأي العام الأمريكي للتدخل العسكري في المنطقة، مما أثر على الرئيس باراك أوباما، لأنه اختار عدم متابعة تحذيراته للحكومة السورية من أن استخدام الأسلحة الكيماوية، من شأنه أن يتجاوز “الخط الأحمر”، وأن يثير عواقبا وخيمة. كما قرر أوباما عدم متابعة التدخل بقيادة الناتو في ليبيا، وهو تدخل أطاح بنظام معمر القذافي، لكنه ترك وراءه دولة منقسمة ودولة فاشلة.
وينفر الرئيس دونالد ترامب، أيضا، من التدخل العسكري في المنطقة. وفضلا عن ذلك، قلَّل الإنتاج المحلي المتزايد للنفط والغاز، من الأهمية المباشرة للشرق الأوسط لدى الولايات المتحدة. كما أدى التنافس المتجدد بين القوى العظمى إلى زيادة حاجة الولايات المتحدة إلى تحويل الموارد والانتباه إلى أوروبا لمواجهة روسيا، وإلى آسيا لمعادلة قوة الصين.
لقد ابتعدت إدارة ترامب عن الشرق الأوسط بطرق لا تعد ولا تحصى. إذ تجاوزت إظهار التردد في استخدام القوة العسكرية أو جنود المركز في مناطق الصراع. كما أن الدبلوماسية غائبة إلى حد كبير. حيث اختار ترامب تجاهل انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية ومصر، ولم تبذل إدارته أي جهد كبير لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
إن أكبر مصدر لعدم اليقين في المنطقة يشمل إيران. إذ انسحبت إدارة ترامب، من جانب واحد، من الاتفاقية النووية لعام 2015، على الرغم من امتثال إيران لها. ثم طبقت الإدارة سياسة “أقصى قدر من الضغط”، والتي تتألف بشكل رئيسي من العقوبات الاقتصادية القاسية، والتي لها تأثير واضح على الاقتصاد الإيراني أدى- وفقا لبعض التقديرات- إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنحو 10 ٪، في العام الماضي.
ولكن إذا كان تأثير العقوبات واضحًا، فإن الغرض منها ليس كذلك. وما يبدو واضحا هو أن إيران ستَرُد على الحرب الاقتصادية الأمريكية بحربها الخاصة. وبالإضافة إلى المنشآت النفطية السعودية، فقد هاجمت إيران حركة ناقلات النفط عبر المنطقة، وبدأت تدريجياً في التحرر من القيود التي حددتها الاتفاقية النووية لعام 2015. ومع اشتداد الضغوط الاقتصادية على النظام، ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها، توقع المزيد من الردود الإيرانية.
وهذا يجعل إدارة ترامب في حيرة من أمرها. إذ تفضل بشكل غير معلن تغيير النظام في طهران. لكن بعد مرور 40 عامًا على الثورة الإيرانية، لايزال النظام مرنًا، على الرغم من الاحتجاجات العامة. ويمكن أن يؤدي الرد العسكري على الأعمال الإيرانية إلى نوع من الصراع الذي لا يريده ترامب، في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020. ولكن السماح لإيران بتحرير نفسها من قيود الاتفاق النووي لعام 2015، يزيد من احتمالات أن تهاجم “إسرائيل” إيران، وتجر الولايات المتحدة إلى الحرب. وحتى إذا لم يحدث ذلك، فقد يدفع تقاعس الولايات المتحدة واحدًا أو أكثر من جيران إيران إلى امتلاك أسلحة نووية لموازنة القدرات الإيرانية، واحتمال انسحاب الولايات المتحدة أكثر من المنطقة. ومن شأن مثل هذا التطور، الذي يحدث في أكثر مناطق العالم اضطرابا، أن يكون كابوسًا.
إن أفضل طريقة لتحقيق تقدم ملموس، هي أن توضح الولايات المتحدة التغييرات السياسية التي تريدها من إيران فيما يتعلق ببرامجها النووية والصاروخية، وكذلك بسلوكها في جميع أنحاء المنطقة، وما هي على استعداد لتقديمه في المقابل. ويجب الإعلان عن مثل هذه السياسة ف أمام الملأ، ومن ثم، إجبار النظام على أن يشرح للمواطنين المحبطين، سبب رفضه تخفيف العقوبات المنشود بشدة من أجل مواصلة أنشطته المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وبرامجه النووية، والصاروخية. وأمام الضغوط الاقتصادية والسياسية الشديدة، قد يوافق النظام على التفاوض، تمامًا كما فعل عندما وافق على إنهاء حربه التي استمرت عقدًا من الزمن مع العراق، التي كانت عدوه اللدود في ذلك الوقت. وحتى الآن، لا تلوح أي مبادرة أمريكية من هذا القبيل في الأفق.
وباختصار، تعلم إدارة ترامب أن الانسحاب من الشرق الأوسط ليس سهلاً، ولا يخلو من المخاطر والتكاليف. ولا تزال للولايات المتحدة مصلحة في مكافحة الإرهاب، ومقاومة الانتشار النووي، ودعم التدفق الحر للنفط، وتعزيز أمن إسرائيل، والشركاء الأميركيين في العالم العربي. والمطلوب واضح: استعداد أكبر للولايات المتحدة لاستخدام القوة العسكرية المحدودة، إذا لزم الأمر، ورغبتها في ربط العقوبات بالدبلوماسية. وما لا يبدو واضحا، هو ما إذا كان من الممكن توقع مزيج السياسة هذا، في أي وقت قريب.
ترجمة: نعيمة أبروش/ العهد