صراع الشوارع.. والحرب القادمة
لماذا تستهدف مؤسسات الدولة في العراق ولبنان وشعبيهما، وكيف وصل المسار لاغتيال الشهيدين الفريق قاسم سليماني وابي مهدي المهندس ورفاقهما الكبار، وما علاقة ذلك بالحرب القائمة القادمة على سورية والمنطقة؟… بهذا المقال سأحاول مقاربة الاجابات ما استطعت لذلك سبيلاً.
*الهدم لإعادة “البناء”:
عندما تعترض العقبات طريق لص سيحاول تذليلها بكل الوسائل وبالتدريج، فالباب المغلق سيحاول فتحه بتحريك مقبضه، وعند تعذر فتحه سيبحث عن المفتاح او أداة لفتحه… وهكذا حتى يصل الى خيار الكسر والخلع… وإذا فشل بكسره قد يلجأ لبعض الحيل لتجاوز معضلة الباب، وأحد أهم هذه الحيل هي الاستعانة بأحد القاطنين خلف هذا الباب سواء بخداعه أو بإشراكه في نهب محتويات المنزل. أحد أبرز اسباب استهداف مؤسسات الدولة خلال “مرحلة الربيع العربي” هو تعطيل دورها على تنظيم “الصراع” بين المكونات الإجتماعية-الإقتصادية، ومنعها من اتمام مشروع بناء الدولة، بل ومنع استمرار الدولة على شكلها وهيأتها الحالية… عندما تستهدف فتتصدع هذه المؤسسات والهياكل التنظيمية والناظمة سيكون الشعب مجرد مجاميع بلا ضوابط، وأمواج بشر بلا عقل نقدي، تعيش اللحظة وتقتات على الحدث اليومي، ولا مكانة لوقائع “الأمس” وحقائقه في الحكم ومحاكمة الحاضر… فيصير الشعار “كلّن” أمراً طبيعيا يمكن تبنيه بسهولة، ولا وزن لموانع علمية واخلاقية ستُسقطه حتماً في أول جولة أمام محاكمة عقلية-علمية… فهل يُعقل أن تضع فؤاد السنيوره في خانة واحدة مع سليم الحص، وميشيل سليمان مع اميل لحود، واشرف ريفي مع عباس ابراهيم، واحمد فتفت وجعجع وجنبلاط مع السيد حسن نصر الله؟!.
بعد تغول السلطات على الأحزاب، وفشل الاحزاب وتحولها الى سلّم من التملق والانتهازية للصعود الإقتصادي-الاجتماعي والتقرب الى مراكز القرار، وتأثير “حقبة النفط” ومفرزاتها الاجتماعية-الاقتصادية-الثقافية على الامة العربية وخصوصا الشباب العربي… انتقل الجزء الاكبر من جيل الشباب نحو حالة التدين “الشكلي” والمتطرف، أو أسرى لدى المعتقلات المذهبية والطائفية والدينية والسياسية والقبلية والجهوية حتى وإن زعموا تجاوزهم حالة التدين الشكلي أو ادعوا مغادرتهم عقلية الطائفة والقبيلة والمناطقية… ليكونوا طابوراً طويلاً من العاطلين عن العمل والانتاج، والفاقدون للإحساس بالقيمة والمكانة … فصار الشباب وقوداً “لصراع الشارع” لكنهم لم يصلوا مرتبة الثوار، وأداة اشتباك وتهديد في يد أعدائهم الطبيعيين لا أداة تغيير اجتماعي ورافعة لنهوض اجتماعي-اقتصادي… حيث يضرب الفقراء والمسحوقون الفقراء والمسحوقين، والجوعى يحاصرون الجوعى… فقط لأن المحرك الطائفي والمذهبي والديني والقبلي… يريد ذلك، حتى وإن عرفوا بأن هذا المحرك ليس أكثر من مُنفّذ محلي لسياسات اقليمية-دولية… غالباً إن لم يكن دائماً، ما تسحق سياساتهم مصالح هذه الشعوب المقهورة. على الرغم من وجعهم والظلم الفادح الذي يلحق بهم… إلا أن السواد الأعظم ممن يحتلون الساحات والشوارع اليوم، تاريخيّاُ واجتماعيّاً وسياسياً، هم من سلّم مفاتيح البيت للطامع والفاسد والمحتل، ما لم يُطهروا حراكهم من شبهة الثورة المضادة، وينزهوا جموعهم من الأعداء، ويحددوا مطالبهم بدقة، ويظهروا من يتحدث باسم مطالبهم… لنخرج من هذا المنزلق الخطير جداً.
*في سورية مربط الفرس:
عملت واشنطن وأدواتها في حربها على المنطقة من البوابة السورية على مراحل، أبرزها:
1-اسقاط الدولة السورية بيد واشنطن سليمة معافاة الى حدّ بعيد عبر مفردات الثورة الملونة، بتهديد القيادة السورية بمصير بن علي وحسني مبارك أي الخلع بقوة “الشارع”… ليأخذوا سورية “المعافاة” شكلاً لمشروع الشرق الأوسط الجديد، والتابعة الذليلة لواشنطن وتل ابيب فعلياً كبقيّة اغلب الدول العربية.
2-وصولاً لتهديد سورية وهذه القيادة بمصير القذافي وليبيا.
3-شن الحرب اللامتماثلة عبر خزان القاعدة المنتشر في افغانستان وباكستان والشيشان ومحميات الخليج وتونس وليبيا… وسجون عدد كبير من دول العالم والكثير من الدول العربية وخصوصاً السعودية.
4-شنّ الحرب الأبشع عبر أكثر الأدوات الإجرامية وحشية وفتكاً وتدريباً… داعش. مثلت داعش أول رغبة صريحة بتفتيت سورية والعراق باقتطاع رقعة جغرافية واسعة، توصف بالقطاع الأكثر حساسية من الناحية الجيوسياسية: من محافظة ديالى على الحدود العراقية الإيرانية حتى محافظة صلاح الدين وكركوك ونينوى حيث النفط وخطوطه التاريخية نحو سورية ولبنان والأردن ثم فلسطين المحتلة، وصولاً الى صحراء الأنبار الممتدة من الجزيرة العربية الى الأردن وسورية. وفي سورية من شمال-شرق الفرات نزولاً الى تدمر ومحيط السويداء وحتى حوض اليرموك. واقترح هنا أن نُدقق بعنصرين أساسين: عندما حاولت بعض اجنحة داعش التقدم حول نقاط سيطرة الأكراد في العراق وسورية تدخلت واشنطن عسكريّاً، وعندما سقطت قذيفة مصدرها داعش على ارض خلاء في الجولان السوري المحتل تقدمت باعتذار للكيان الصهيوني كما قال “ليبرمان” وزير حرب العدو حينها… أي أن واشنطن وتحالفها كانا يرسمان بالنار خطوط تقدم داعش عندما يساء فهم التفويض أو عند تأرجح التفاهمات السياسية-الميدانية… وأن كياناً “كرديّاً” يتوارى خلف “الدولة الإسلامية” أُريد اقامته وإنشائه وهو من اهم اهداف قيام داعش. وأما العنصر الثاني فيتلخص بعزل سورية عن العراق والمشرق العربي عموماً عبر الانتشار الداعشي المدعوم اميركيا وغربيا وعربياً ليحقق هذا العزل ثلاثة نتائج كبرى على الأقل، تَسِمُ مستقبل المنطقة برمتها:
1-التمهيد لحصار سورية وإسقاطها من خلال الانهاك الاقتصادي، والهجمات الإرهابية، والاعتداءات الصهيو-غربية، والهجمات الاعلامية المكثفة التي ستوهن المعنويات وتفكك عُرى المجتمع… .
2-قطع خط التواصل البري ولاحقاً الجوي بين اقطاب محور المقاومة، طهران-بغداد-دمشق-بيروت دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة ستُدمي محور واشنطن ولا يمكن التنبؤ بميادينها وأسلحتها وبالتالي نتائجها وتداعياتها.
3-تهيئة الأرضية لإنفاذ صفقة القرن والتي ستسعى لخلق واقع جغرافي-سياسي من اهم عناصره: تشكيل النيتو الشرق أوسطي بقيادة اقليمية في تل ابيب ودولية في واشنطن، تصفية القضية الفلسطينية عبر الحلول الاقتصادية-الاجتماعية-الأمنية، تحويل السواحل الفلسطينية المحتلة الى منفذ لتجارة جزيرة العرب والأردن عوضاً عن برّ الشام وسواحل سورية.
*اغتيال الفريق سليماني، بداية جديدة ودموية للهجوم المعاكس الأمريكي:
بعد اسقاط “الرئيس عادل عبد المهدي” الذي فتح معبر البوكمال، ومنع حل أو تذويب الحشد الشعبي، وتوجه للصين لاعادة اعمار العراق بدلاً من واشنطن التي طالبت بنصف نفط العراق، وارسل مستشار الامن الوطني فالح الفياض، لمفاوضة موسكو حول تزويد بغداد بمكونات دفاع جوي عصري ورادع… جاء عدوان “مطار بغداد”. الكل يُجمع بأن العدوان سيكون له تداعيات يصعب حصرها والتنبؤ بها، فالحدث ما زال حارّاً صادماً مدوياً… لذلك سوف أغامر بقاربته من الزاوية الاستراتيجية، وهي الأهم والأخطر، مستخلصاً ما يلي:
1-ما كانت واشنطن لتقدم على عدوان مكشوف بهذا الحجم إلا لكونها “أسيرة” واحدة من هذه السيناريوهات الثلاثة:
أ-أن واشنطن لم تكن على علم بوجود الشهيد “سليماني” ضمن رتل المطار، وعندما تفاجأت بوجوده اضطرت لمتابعة “الرواية” لآخرها حتى لا تفقد العملية الغادرة قيمتها الأمنية-العسكرية-السياسية قبل أن تُعلن عنها حتى.
ب-أن واشنطن سعت لاغتيال سليماني على الأرض العراقية لخلق الانقسام الداخلي والمزيد منه في ايران والعراق وفي الأخير تحديداً، تمهيداً لسيناريو اعادة انتاج السلطة في العراق أو ادخاله في اتون الاقتتال الداخلي، وهنا ايضاً هي ارتكبت خطأً عملياتياً عندما اغتالت الشهيد “المهندس” حيث سيصعب على عملائها التحرك مع رمزية هذه الدم.
ج-أنها كانت على علم بوجود الشهيدين الكبيرين ضمن الوفد، وسعت لاغتيالهما عن سابق رصد وتصميم، وهي على علم بالآثار “المحتملة” لهذا الإغتيال، ولكنها تعلم بأن مهمة “الفريق” ستأتي بتداعيات أكبر من بكثير من تداعيات الاغتيال.
*كلمة أخيرة:
أعتقد بأن السيناريو الثالث هو الأرجح، فواشنطن تدرك جيداً بأن هناك تحركات خطيرة جداً تجري على أرض المنطقة، رصدت بعضها وبعضها الآخر تتوقعه وتشعر به دون أن تراه، وتشي باقتراب أحداث ستصيب مشاريعها في مقتل… خصوصاً وهي تعلم بأن هجومها المضاد عبر “الإمساك بالشارعين” اللبناني والعراقي لم يحقق النتائج المرجوة، وأن هجوم محور المقاومة المعاكس بدأ أو يكاد… فقررت توجيه ضربة –على مخاطرها- لمحور المقاومة تفقده تركيزه وتوازنه، وتعيد خلط أوراقه، وتفاجئ محاور اشتباكه في الوقت القاتل، أي قبيل التنفيذ مباشرة… . وهنا يظهر رأس السيناريو الأسوأ إذا ما صدق توقعي هذا؛ في حال “اطمأنت” واشنطن وحلفائها الى عمق ومساحة انتشار الردّ العراقي-الإيراني وحلفائهما في محور المقاومة، وانحصاره ضمن دائرة الخسائر الممكن تحملها بالمقارنة مع السيناريو الأسوأ، سيكون هذا الإغتيال الآثم بداية لمجموعة اعتداءات نوعية لعدد كبير من الأهداف المنتقاة في سورية والعراق ولبنان وفلسطين وربما اليمن… لقادة ومعسكرات ومقرات قيادة ومخازن سلاح ومنظومات دفاع جوي… مع تشديد غير مسبوق في الحصار الإقتصادي-المالي على مجمل دول المحور، تمهيداً لـ”ثورة شعبية” تنهي ما تبقى من مهمة الهجوم الأمريكي المضاد… هذا ظنهم وأُس سعيهم، ويبقى الميدان بانتظار ردّ أهل الأرض والأجدر بالنصر.
سمير الفزة
اقرأ أيضا: سوريا 2019 الأقوى والاقرب للنصر….فهل يكون 2020 عام إعلان النصر الكبير؟