السوريون وليبيا: حجر تركي لضرب عصفورين… أو أكثر
علاء حلبي
بشكل متزايد، تعمل تركيا على نقل مقاتلين سوريين إلى ليبيا لمؤازرة “حكومة الوفاق” المدعومة تركياً وقطرياً والتي يقودها فايز السراج في حربها ضد “الجيش الوطني الليبي” الذي يقوده المشير خليفة حفتر وتدعمه روسيا والإمارات والسعودية ومصر.
تشير آخر الإحصاءات التي نشرها “المرصد السوري لحقوق الإنسان” المعارض الذي ينشط من بريطانيا إلى أن عدد المقاتلين السوريين في ليبيا وصل إلى نحو 1600 حتى الآن، وسط عمليات تجنيد متواصلة ضمن مكاتب منظمة في المناطق التي تسيطر عليها تركيا في الداخل السوري.
منذ بداية الحرب في سوريا قبل نحو عشر أعوام، شكّل السوريون “فرصة” لتركيا التي شرّعت أبوابها لاستقبال اللاجئين الأمر الذي ساهم بدخول نحو اربعة ملايين سوري إلى تركيا، شكلّوا بمجملهم “فرصة استثمارية” بعيدة المدى على أصعدة عدّة، اقتصادية وسياسية وحتى عسكرية.
خلال الأعوام الماضية، تمكنت تركيا من الضغط على أوروبا حين فتحت الباب أمام اللاجئين السوريين لدخول أوروبا، الأمر الذي خلق موجات لجوء متتالية دفعت الاتحاد الأوروبي إلى إبرام اتفاقيات مع أنقرة لدفع ثلاثة مليارات يورو مقابل إغلاق الباب أمام اللاجئين السوريين ومنعهم من دخول أوروبا.
وعلى الرغم من تحصيل مبالغ مالية طائلة، ظلّت ورقة اللجوء السوري “رابحة” بيد تركيا التي تستغلها بين وقت وآخر لتمرير قرارات، او إزاحة معوقات أوروبية أمام الطموح التركي، وكانت آخر فصولها التهديدات التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بفتح الباب أمام اللاجئين السوريين في حال حاول الاتحاد الأوروبي منع القوات التركية من التوغل في الداخل السوري، أو حتى في حال اعتبرت أوروبا هذا التدخل “اجتياحاً”.
كذلك، استغلت تركيا توافد اللاجئين السوريين على أراضيها من جهة، وعلاقاتها مع الفصائل المسلحة في الداخل السوري من جهة أخرى في ضمان وجود موارد بشرية لعملياتها العسكرية في سوريا، عن طريق بناء هيكلية من المقاتلين السوريين يشكلون قوة عسكرية على الأرض، ويقاتلون تحت الراية التركية في الصفوف الأولى، الأمر الذي يمنح التدخل التركي غطاءً، ويضمن لتركيا تخفيف خسائرها المباشرة في هذه المعارك.
خطر داخلي
على الرغم من استثمار تركيا موجة اللجوء السورية الكبيرة، شكّلت هذه الموجة أزمة داخلية تفاقمت مع مرور الوقت، فالاختلاف الثقافي بين الأتراك والسوريين من جهة، وتنامي الخطاب القومي التركي والأحزاب التي ترعاه من جهة اخرى، كانت من بين العوامل التي أشعلت فتيل أزمة متصاعدة.
مركز الدراسات الميدانية الاجتماعية والسياسية في تركيا نشر تقريراً الأسبوع الماضي تحت عنوان “دراسة مشكلات القبول والانسجام والعلاقة بين اللاجئين والمواطنين المحليين في المدن الحدودية”، تضمن استطلاعاً للرأي شارك فيه أتراك وسوريون.
وبحسب التقرير، فإن 83% من المواطنين الأتراك في يرون أن مستوى الأمن انخفض بعد مجيء السوريين، كما أن 71% من المواطنين الأتراك يرون أن حالة من الاضطراب والقلق حدثت في المجتمع بعد وصول اللاجئين السوريين، وأن معدلات البطالة ارتفعت، وأن النسيج الثقافي التركي تعرض للضرر.
وبحسب التقرير فإن 43% من المواطنين الأتراك لا يريدون السوريين جيرانًا لهم. ولفت التقرير الى أن 77% من المواطنين الأتراك يريدون عودة السوريين إلى بلدهم، مشيراً إلى أن 40% من اللاجئين السوريين يعانون من البطالة.
الدراسة التركية الأخيرة يمكن أن تعطي انطباعاً أولياً حول نظرة المجتمع التركي للوجود السوري على أراضيه، الأمر الذي ينذر بمستقبل مظلم لهذه التجربة، بالتوازي مع تراجع شعبية “حزب العدالة والتنمية” داخل تركيا، لصالح أحزاب المعارضة، واستغلال قضية اللاجئين السوريين ضمن الحملات الانتخابية، خصوصاً مع ارتفاع معدل “جرائم وخطاب الكراهية” ضد السوريين، وعمليات الطرد المتواترة التي يتعرضون لها من بعض المدن والبلدات.
إضافة إلى ذلك، تعتبر المناطق الحدودية مع سوريا، والتي تتمترس فيها الجماعات “الجهادية” (إدلب على وجه التحديد) واحدة من المخاطر التي تواجه تركيا، فعلى الرغم من العلاقة القوية بين أنقرة وهذه الفصائل، يمثّل وجودها “خطراً مستقبلياً” على تركيا، كما تمثل عمليات التواصل المستمرة بين هذه الفصائل وشرائح من اللاجئين السوريين بذرة لتنامي هذه الفصائل في الداخل التركي، قد تدفع تركيا ثمنه مستقبلاً.
جميع العوامل السابقة، بالإضافة إلى الرغبة التركية في السيطرة على الشريط الحدودي مع سوريا، والدفع بالخطر الكردي بعيداً عن هذه المناطق الحدودية، ساهمت بمجملها في بلورة المشروع التركي بإنشاء “منطقة آمنة” في الداخل السوري يمكن أن تشكّل مناطق استقبال للاجئين السوريين غير المرغوب بهم في تركيا من جهة، ومناطق حماية لأنقرة في خاصرتها الجنوبية، حيث تعمل السلطات التركية على فرز اللاجئين، وانتقاء السوريين الموالين لها بشكل مطلق لتوطينهم في هذه المنطقة من جهة أخرى.
الانفجار والحل الليبي
شكلت المنطقة الشمالية من سوريا مع تقدم الجيش السوري، وانسحاب الفصائل “الجهادية” إلى المناطق الحدودية مع تركيا، تجمعاً كبيراً للفصائل “الجهادية” بمختلف أنواعها ومسمياتها وجنسياتها. ومع استمرار عمليات الجيش السوري وتقدمه في إدلب، زاد الضغط بشكل كبير على هذه الفصائل التي وجدت نفسها “محشورة” في منطقة جغرافية تضيق مع مرور الوقت.
أمام هذه المتغيرات، وجدت أنقرة نفسها بين خيارات محدودة جميعها ينذر بانفجار، حتى وإن كان مؤجلاً، فدخول هذا الكم من “الجهاديين” إلى تركيا يعني انتقال الحرب إلى أراضيها، وهو ما ترفضه انقرة رفضاً قاطعاً، كما أن نقل هذه الفصائل بمجملها إلى مناطق “درع الفرات” سيضرب المشروع التركي على الشريط الحدودي مع سورياً في مقتله، وهو ما حذرت منه منظمة حقوق الانسان “Human Rights Watch” في تقرير لها في شهر تشرين الأول/اكتوبر من العام الماضي.
التقرير الذي حمل عنوان “تركيا: “المنطقة الآمنة” لن تكون آمنة” شدد على أن المخطط التركي سيبوء بالفشل، معتبراً أن “خطة تركيا لإنشاء “منطقة آمنة” بامتداد 32 كيلومترا في سوريا قادرة على استيعاب مليون لاجئ سوري هي للأسف مضللة وخطيرة، ومصيرها الفشل”.
واستعان التقرير بتجارب تاريخية لهذا النوع من المشاريع، حيث أشار إلى أنه “لطالما كانت فكرة إنشاء “مناطق آمنة” لتوطين اللاجئين فكرة محفوفة بالمخاطر، ونادرا ما كانت “المناطق الآمنة” آمنة فعليا أينما أنشِئت خلال النزاعات السابقة. بدون ضمانات كافية، قد تكون وعود السلامة وهماً عندما تتعرض “المناطق الآمنة” لهجوم متعمد، كما حدث في سريبرينيتشا عام 1995. وغالبا ما يستغل المقاتلون وجود “منطقة آمنة” أحيانا للاختلاط مع المدنيين واستخدام المنطقة لشن الهجمات، ما يجعلها هدفا عسكريا مشروعا. وتعد المناطق الآمنة بطبيعتها مصادر وافرة للجماعات المسلحة لكي تحصل على المساعدات الإنسانية وتجنّد مقاتلين جدد، ما يعرّض المدنيين، بمن فيهم الأطفال، لخطر إضافي”.
في غضون ذلك، ظهرت الأزمة الليبية كطوق نجاة من انفجارات مستقبلية محتملة، سواء قرب الحدود التركية أو حتى في الداخل السوري. فإضافة إلى المصالح النفطية التركية، وموقع ليبيا الهام، وإمكانية استعمال الورقة الليبية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية مستقبلية، سواء مع دول الجوار أو حتى أوروبا، مثّلت ليبيا فرصة لـتركيا لـ”تصدير الحرب” إلى مناطق بعيدة عن حدودها، عن طريق تجنيد السوريين، سواء من خبر منهم القتال وامتهنه، أو من الشبان العاطلين عن العمل الذي يعانون ضغوطاً اقتصادية ومجتمعية، الأمر الذي يمكن أن يخلق نواة لانتقال الجماعات “الجهادية” إلى تلك المنطقة مع ازدياد الضغط عليها مع تقدم الجيش السوري، واغلاق تركيا حدودها في وجهها.
كذلك، تشكل هذه الخطوة “فرصة” لاستثمار مقاتلين برواتب زهيدة (لا توجد أرقام دقيقة للرواتب التي تدفعها تركيا، إلا أن بعض المصادر تشير إلى أن ما يتم تداوله حول دفع 1800 دولار للمقاتل الواحد هي أرقام مبالغ فيها بشكل كبير)، كما أنها تساهم في توسيع رقعة المعركة قرب الحدود مع مصر، ما يمكن أن يمهد لنقل هذه المعارك إلى الداخل المصري.
أمام هذه المعطيات، يبدو أن أنقرة تنتظر من هذه الخطوة مكاسب مستقبلية أياً كانت نتائج هذه المعركة، حيث يمكن أن تعتبر استمراراً في استثمار الأزمة السورية، وما خلقته من موارد لتركيا بمختلف أنواعها، أبرزها المورد البشري الذي قامت، وتقوم، بفرزه الى شرائح، بعضها يتم تجنيسه، والبعض الآخر توطينه قرب الحدود، وما تبقى يمكن تصديره لأوروبا، أو استثماره في معارك بعيدة عن الحدود.
180post