سوريا … حروب عابرة للحدود
علاء حلبي
سيطر الشمال السوري، والشمال الشرقي النفطي، على المشهد الميداني في سوريا خلال العام الماضي، وما زالت هاتان المنطقتان الأكثر اشتعالاً حتى الآن، بعد التغييرات التي فرضها التدخل العسكري التركي في شرق الفرات، وبدء انفراط عقد قوات “قسد”، والتوسع الروسي على المثلث الحدودي السوري العراقي التركي، بالإضافة إلى انسحاب أميركا من ميادين القتال المباشرة، وتقوقعها في المناطق النفطية.
كل ما سبق عوامل أعادت رسم المشهد السوري على النحو الذي سيترك أثاره على مجريات الوضعين الميداني والسياسي خلال الفترة المقبلة.
حلب تعود إلى الواجهة
في الشمال، عادت مدينة حلب إلى واجهة الأعمال العسكرية، مع بدء انطلاق عمليات الجيش السوري على المحور الجنوبي الغربي، لفتح طريق حلب- حماة- دمشق، والذي كان من المفترض أن يحدث قبل نهاية العام 2018، بموجب الاتفاق الروسي – التركي في سوتشي لإقامة منطقة منزوعة السلاح.
هذا الاتفاق، وعلى الرغم من مرور أكثر من عامين على توقيعه، لم ينجح بتحقيق أي تقدم ملموس على الأرض، الأمر الذي انتهى بإطلاق عمليات عسكرية سورية – روسية على محور الطريق في محافظة إدلب، حيث وصل الجيش السوري إلى حدود معرة النعمان، آخر معاقل المسلحين في إدلب على طريق حلب الدولي.
أمام التقدم العسكري للجيش السوري، حاولت تركيا إبرام اتفاقية تهدئة مزدوجة مع روسيا في إدلب وليبيا، لتدخل هذه التهدئة في دوامة صراع إقليمي ودولي مختلف يرتبط بليبيا والدول اللاعبة فيها، ما أدى إلى فشل الهدنة وعودة الجيش السوري للقتال مرة أخرى.
وعلى الرغم من الفشل المبدئي للهدنة، التي كانت منذ بدايتها “هشة”، وتتداخل فيها عوامل مختلفة بعضها يتعلق بالفصائل “الجهادية” التي لم تستطع تركيا، أو لم ترغب، بضبطها، وبعضها الآخر يتعلق بالصراع النفطي في ليبيا، لا تزال تركيا وسوريا وروسيا تمسك العصا من المنتصف، فلم تصدر أية تصريحات رسمية حول فشل هذه الهدنة بشكل نهائي.
على هذا الأساس، أعلنت وزارة الدفاع السورية أن العمليات العسكرية تأتي رداً على خروقات المسلحين، واستمرار قصف المدنيين في حلب.
أما وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو فرفض الحديث عن فشل نهائي للهدنة، وأصر خلال لقاء تلفزيوني مع قناة “سي ان ان” تورك على ربط تطورات الشمال السوري بليبيا في أكثر من موقع، مشيراً في الوقت ذاته على أنه على الفصائل المسلحة “أن تحمي نفسها”، قبل أن يخرج الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ويربط التطورات في الشمال السوري بليبيا بشكل مباشر، معلناً أن بلاده ستناقش التطورات في إدلب خلال مؤتمر برلين حول ليبيا.
الشرق النفطي.. العراق وانتخابات أميركا
في الشرق السوري، تبدو الصورة ضبابية ترتبط تطوراتها بمتغيرات تجري في مناطق بعيدة عنها، في وقت تتابع فيه واشنطن حشد قواتها وتمترسها في حقول النفط، وتتابع روسيا تمددها في المنطقة.
وترتبط خريطة السيطرة في المنطقة بشكل كبير بأحداث العراق، والتطورات الأخيرة التي شهدتها بلاد الرافدين، إثر قصف أميركا مواقع للحشد الشعبي وما تبعها من تطورات أبرزها اغتيال قائد “فيلق القدس” الإيراني الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، لترد إيران بقصف قاعدتين أميركيتين، الأمر الذي زاد من تعقيد المشهد على امتداد منطقة الشرق الأوسط.
ترتبط خريطة السيطرة في الشرق السوري بأحداث العراق، والتطورات الأخيرة التي شهدتها بلاد الرافدين.
ويرتبط استمرار تمركز القوات الأميركية في سوريا بشكل كبير بعاملين رئيسيين يتعلقان بشكل كامل بحدثين خارج حدود سوريا: الأول هو توافر خطوط امداد للقوات الأميركية في سوريا، وما قد تشهده من تغيرات على الجانب العراقي، في ظل السيطرة الروسية على معظم الطرق الرئيسية في المنطقة، والثاني السياسة الأميركية بشكل عام ومدى استمرارها بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في شهر تشرين الثاني المقبل، أو حتى قبل هذا التاريخ، في ظل المعارك السياسية التي يخوضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد قرار مجلس النواب الأميركي البدء في إجراءات العزل الرئاسي، في التاسع عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، وما قد يقرره مجلس الشيوخ الذي تولى التحقيق في الأمر خلال الأيام القليلة المقبلة.
“سفر برلك”
بعد قرن ونيف من “سفر برلك” السلطنة العثمانية، حين أعلن السلطان العثماني محمد رشاد العام 1914 النفير العام، مع بداية الحرب العالمية الأولى، يقرع هذا الحدث الباب من جديد ضمن الساحة السورية، مع بدء أنقرة تجنيد وإرسال مقاتلين سوريين إلى ليبيا للمشاركة في الحرب الدائرة فيها بين القوات الموالية لتركيا (الاخوان المسلمين) من جهة، القوات المدعومة سعودياً ومصرياً من جهة ثانية.
وعلى الرغم من الفوارق الكبيرة بين أحداث العام 1914، وأحداث اليوم، سواء في حجم عمليات التجنيد، ومواقع القتال، والمرتبات التي تدفع للجنود الذين ترسلهم أنقرة إلى ليبيا، فقد فتح هذا الحدث الباب على مصراعيه أمام احتمالية انتقال جزء كبير من المسلحين إلى ليبيا، البؤرة الأكثر اشتعالاً في الوقت الحالي، ما يعني انسحاب الصراع من سوريا تدريجياً من جهة، ووقوع مواجهات عسكرية قد تشكل بذرة حرب طاحنة بين دول إقليمية كبيرة، من شأنها أن تغيّر موازين القوى في المنطقة، الأمر الذي قد تظهر آثاره على الأرض في سوريا من جهة أخرى.
انتقال المسلحين إلى ليبيا يعني انسحاب الصراع من سوريا تدريجياً، وتغيّراً في موازين القوى قد تظهر آثاره على الأرض السورية
وأياً كان مصير الحرب في ليبيا، فقد تسببت خطوة إرسال مقاتلين سوريين في ضرب الصورة “الوردية لثوار الحرية في سوريا” التي تم الاشتغال عليها طيلة السنوات التسع الماضية، وفتحت الباب أمام إمكانية سعي أنقرة إلى “إبعاد الصراع” عن حدودها الجغرافية، والتخلص من شبح الجماعات “الجهادية”، في ظل تقدم الجيش السوري وتراجع تلك الفصائل و”تكدسها” في خاصرة تركيا الجنوبية، كذلك، ساهم الانخراط التركي الكبير في الملف الليبي في مواجهة روسيا التي تدعم قوات خليفة حفتر، بوضع الملفين الليبي والسوري ضمن سلة محادثات تركية روسية واحدة، الأمر الذي بدا جلياً في الاتفاق على الهدنة الثنائية في كل من ليبيا وإدلب.
لبنان و “قيصر” وأزمة الدولار
على الصعيد الاقتصادي، تبدو سوريا، حتى الآن، الأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان، حيث تجاوز سعر صرف الدولار الـ 1150 ليرة سورية وهو ضعف سعر الصرف مقارنة بمطلع العام الماضي (نحو 495 ليرة في الأول من كانون الثاني/يناير العام 2019) ما يعني أن العملة السورية خسرت أكثر من نصف قيمتها خلال عام واحد فقط، وأكثر من 95 في المئة من قيمتها منذ اندلاع الحرب.
وعلى عكس الأعوام السابقة، التي شهدت نمواً كبيراً للجمعيات الخيرية، والمنظمات الدولية التي ساهم نشاطها في التخفيف من الأعباء الاقتصادية على شريحة واسعة من الشعب السوري، شهد العام المنصرم تراجعاً في نشاط هذه المنظمات، ومن المتوقع استمرار تراجع نشاط هذه المنظمات العام الحالي الأمر الذي من شأنه أن يضاعف الأزمة الاقتصادية لشريحة واسعة من الشعب السوري، علماً أن 83 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وفق إحصاءات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا التي أصدرها في شهر آذار/مارس الماضي، حيث أفاد التقرير حينها أن وقدَر التقرير أن 11.7 مليون سوري بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية المختلفة، كالغذاء والمياه والمأوى والصحة والتعليم، وهي أرقام من المتوقع ارتفاعها في ظل تراجع الأوضاع المعيشية والاقتصادية واستمرار خسارة الليرة السورية قيمتها.
كذلك، تشكل العقوبات الاقتصادية على سوريا، والتي ازدادت بعد توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على ما عرف بـ “قانون سيزر (قيصر)” واحدة من أهم التحديات التي تواجه سوريا في العام الحالي، خصوصاً أن هذه العقوبات طالت قطاعات حيوية في سوريا، أبرزها القطع النفطي، ما يعني مزيداً من الأزمات النفطية، ودفع أموال إضافية مقابل الحصول على الطاقة، في ظل سيطرة الولايات المتحدة على أهم منابع النفط في سوريا.