”طبّاخة الحي” فرص عمل مجزية.. هكذا انتصرت سوريات على الأزمة
* علاقتي بالمطبخ والطبخ كانت صفراً وشبه معدومة… لكن الحاجة أمّ الاختراع» (محمد دامور)
المشاريع المتناهية الصغر، كما المنزلية، من أبرز مفرزات الحروب وتداعيات الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يواجهها الأفراد، وهي تشكل أحد أوجه «اقتصاد الظل» التي يجد المجتمع نفسه مجبراً على احتضانها في مثل هذه الظروف. ولأن الطعام حاجة إنسانية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، برزت «المطابخ المنزلية» من بين المشاريع التي راجت خلال السنوات الفائتة، وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي بانتشارها وتطويرها، وكانت عاملاً مهماً من عوامل نجاحها
في منزلها بحي ركن الدين، شرقي العاصمة دمشق، تعدّ لين سعد الدين، يومياً، بمساعدة أمها وبعض النسوة، قائمة من الطلبات والمأكولات الخاصة بالحفلات والمناسبات، مقابل أسعار مقبولة نوعاً ما، ويقوم زوجها بإيصالها إلى أصحابها. لين (٢٦ عاماً) إحدى خرّيجي كلية التجارة والاقتصاد قبل الحرب، وكانت تخطط للزواج والسفر مع زوجها إلى ليبيا. لكن تفاقم الأوضاع في البلدين حال دون ذلك، فتعطل سفرهما. وقتذاك، فكرت الأسرة في مشروع المطبخ المنزلي.
تغدو القيمتان النفسية والاجتماعية للمشاريع المنزلية أهم مما تقدّم بكثير
تقول سعد الدين : إن «الواقع الجديد كان صعباً، خاصة بعد أن اضطرت العائلة الكبيرة إلى العيش في منزل واحد، وهنا فكرت أن الإنسان يستطيع أن يغير مصيره إذا حاول رؤية الواقع بطريقة مختلفة». وتضيف، على سبيل الدعابة، «علاقتي بالمطبخ والطبخ كانت صفراً وشبه معدومة، لكن الحاجة أمّ الاختراع كما يقولون». يلاقي مشروع لين نجاحاً وإقبالاً طيباً، بسبب السمعة الحسنة التي استطاعت كسبها بين زبائنها. وهي ترى أن أهم عوامل نجاحها حتى الآن، ثقة الناس بها وبنظافة ونكهة المأكولات التي تقدمها. إلى جانب وضوح هدفها وحُسن إدارتها التي اكتسبتها من اختصاصها الجامعي، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في رواج المشروع وجذب الزبائن. لا تشعر السيدة بالأسف بسبب بقائها في البلاد، برغم كل ما حصل فيها. تقول: «أنا غير نادمة على الإطلاق، لأنني هنا استطعت الإنجاب واختبار الأمومة، وبناء عائلة صغيرة، وتكوين شخصية ناجحة. ربما لم أكن لأستطيع تحقيق شيء مما ذكرت، في مكان آخر». .
«معادلاتٌ» طيّبة!
لا تعدّ لين حالة فريدة في المجتمع السوري، اليوم. وبرغم أن فكرة «المطابخ المنزلية» ليست جديدة، فإن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي رافقت الحرب، ساهمت بانتشارها في شكل كبير، ولا سيما في ظل سهولة تأسيسها، وسرعة إنتاجها، وضمان ربحها، شريطة مراعاة شروط النجاح طبعاً، كالنظافة وإتقان الإعداد والترويج الصحيح. تدير منال المصري (٢٨ عاماً) مجموعة خاصة على موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك»، باسم مطبخها. تنشر عبرها قائمة الأطعمة المتوافرة، مرفقة بالأسعار، مع صور جذّابة للوجبات بعد انتهاء تحضيرها، ثم تتواصل مع زبائنها عبر تطبيق «واتسآب»، ليختاروا طلباتهم، ومواعيد تسلّمها.
درست منال الرياضيات، وكانت تطمح إلى مستقبل واعد بـ«الأبحاث وحلّ المعادلات المستحيلة الحلّ»، لكنها فوجئت بالمنهج النظريّ المتبع واختلافه الكبير عن توقعاتها. ومع بدء الأحداث في سوريا، غادرت الشابة مع أفراد عائلتها منزلهم مكرهين. تبدلت الأحلام، وتغيرت الخطط والأولويات، بعد أن فرض الواقع الجديد حاجة إلى مصدر دخل مضاعف. تخلّت منال عن حلم الرياضيات، بسبب الفجوة التي تولدت بينهما. واتّجهت نحو المطبخ الذي لم تكن تعرف عنه شيئاً، لتنخرط في إنجاز معادلات طيبة المذاق! تعلمت منال الطبخ، عبر مواقع متخصصة على شبكة الإنترنت. ثم بدأت تطبيق ما تعلمته في البيت، مستعينة بخبرة أمها التي تقول إنها «طاهية من الطراز الرفيع». بعد ذلك، خضعت بالشابة لدورات متخصصة في فن الطهو، لأنها ترى أن ذلك «مهم اجتماعياً، مهما كانت الخبرة كبيرة».
من أهم ما يميّز المشاريع المنزلية، أنها منخفضة التكاليف إجمالاً، ويمكن إطلاق أحدها برأسمال ضئيل، وبعدد قليل من العاملين، فضلاً عن تعدد خيارات الإنتاج بحسب الاختصاص والخبرة. تقول منال : «عندما بدأت مشروع المطبخ، كانت ميزانيتي لا تتجاوز مبلغاً يعادل 100 دولار، ومؤونة البيت. كنت أعمل أنا وأمي وخالتي فقط، أما اليوم، فقد ازداد عددنا، وأصبح هذا المشروع يؤمن كفاف أكثر من سبع عائلات.
«طبخ» الأمل
تساعد المشاريع المنزلية في تحقيق الاكتفاء الذاتي لفرد أو عائلة وربما عائلات عدة، فيما يعاني الكثيرون من قلة فرص العمل أو ندرتها، مع تدني معدل الأجور بشكل عام. في حالات كثيرة، تغدو القيمتان النفسية والاجتماعية لهذه المشاريع، أهم مما تقدّم بكثير. إذ تساهم في تعزيز ثقة أصحابها بأنفسهم، وخاصة النساء. وتمنحهم أدوات جديدة لمواجهة أزمات الحياة، بعد فقدان الأمل بإكمال الدراسة أو الحصول على وظيفة، أو الزواج أحياناً.
وتحولت مشاريع المطابخ المنزلية، بمختلف اختصاصاتها (كصناعة المؤن أو الحلويات وتحضير المأكولات المنزلية التقليدية) إلى جزء أساسي من برامج عمل الكثير من الجمعيات الخيرية. الأمر ليس سهلاً بطبيعة الحال، فهناك عقبات وصعوبات تعترض هذه المشاريع، شأنها شأن أي مشروع آخر. ويأتي على رأس العقبات، عدم استقرار الأسعار، وارتفاعها بشكل مطّرد، علاوة على فقدان بعض المواد والمنتجات من الأسواق. ومع صعوبة مراقبة الأسواق، والضبوط المتكررة التي توثق عمليات الغش، وقلة النظافة، وخرق الشروط الصحية للعمل في معظم المطاعم، فإن ربّات البيوت اللواتي لا يمكنهن الاستغناء عن المأكولات التقليدية في مناسباتهن العائلية والاجتماعية، يجدن في المطابخ المنزلية ملاذاً آمناً، يُلبي حاجاتهنّ، ويرضي شعورهنّ بالثقة بما يشترينه.
تتفق لين ومنال، على أن لدى كل منهما فائضاً من الأسباب التي تدفعها إلى اعتكاف الحياة، والتقوقع على الذات، بعد كلّ ما قاستاه. تقول إحداهما: «الخيار في يدنا، إما أن نخلق الوسائل لنرسم أقداراً مختلفة، برغم كل الضغوط التي سببتها الحرب أو أن نستكين لشعور العجز بضمير مرتاح، لأن عذرنا موجود بحجة وضع البلد»..
سيرياستيبس
اقرأ أيضا: حتى السيارات.. التموين تهدد بإغلاق المحال التي لا تعلن أسعارها