اغتيالات درعا: حربٌ سوريّة خلف الكواليس!
عبير بسّام
لم تتوقف سياسة الاغتيالات الأميركية والإسرائيلية المتبعة في منطقتنا، والتي استهدفت الجميع من مختلف التنظيمات المقاومة والقيادية والعلمية. سياسة تقرّها كلّ من حكومة الكيان الصهيوني والحكومة الأميركية على حدّ سواء. وقرار الكيان العبري المعلن على لسان وزير كيانه “اسرائيل كاتس” في نهاية العام الماضي، لم يوجه ضد “حماس” فقط، ولكن ضد قيادات في حزب الله في لبنان وهو يصب في تشريع الاغتيالات التي تطال الحلفاء في سوريا إن كانت بشكل مباشر عن طريق القصف الجوي أو من خلال استخدام العملاء لها حول العالم وفي سوريا. وبالتالي فإن عمليات الاغتيال التي نشطت في سوريا وفي محافظة درعا بالذات ليست غريبة عن القرار الإسرائيلي وعمن عَمِل معه خلال 72 عاماً من الصراع، وخلال الأزمة السورية.
تأخذ الاغتيالات في درعا طابعاً مختلفاً عن الذي ساد خلال الأزمة التي ابتدأت منذ آذار من العام 2011، اذ انتشرت وقتها عمليات الاختطاف من أجل الفدية والتي طالت جميع فئات الشعب بمختلف مراكزهم العلمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، والهدف من ورائها جمع الأموال: ليس فقط من قبل عناصر “الجيش الحرّ”، بل من قبل عصابات غوغائية بهدف الربح المادي، وقد أزهقت أرواح الكثيرين من أهالي درعا سواء كان لهم علاقة بالدولة أم كانوا خارج ملاكها. وهذا ما أسس لإحساسٍ بالمرارة وتأجيج لمشاعر الثأر ما بين الناس هناك. أضف إلى ذلك أنه خلال ثمان سنوات كان الطريق من فلسطين إلى العراق- كردستان العراق- مؤمناً لعناصر الموساد الإسرائيلي دونما ازعاج. وهذا ما يفسر الاستياء الإسرائيلي والأميركي من تحرير المدينة، ويفسر تمسك الأميركي بقاعدة التنف كممر آمن لهذه العناصر عبر الصحراء من الأردن إلى العراق.
بعد تحرير محافظة درعا من الإرهاب، في العام 2018، ابتدأت عمليات محدودة ضد حواجز الجيش السوري، ولكنها منذ منتصف العام 2019 تصاعدت بشكل مطرد. اذ انطلقت في المرحلة الثانية العمليات ضد دوريات الجيش الروسي. والروسي، هو راعي المصالحات وهو على علاقة مباشرة مع جميع أهالي حوران (درعا) بمختلف الفئات ممن قاتلوا مع التنظيمات المسلحة ضد الدولة، أو ممن لم يتورطوا في العمليات الإرهابية. ويعتبر المتصالحون مع الدولة، أنفسهم، بحسب ما يتداوله اهالي المدينة، تحت القيادة الروسية حصرياً! بمعنى أنهم لم يعودوا إلى كنف الحكومة السورية بعد!
في الآونة الأخيرة ارتفعت وتيرة الاغتيالات لتطال شخصيات أمنية من ضباط جيش ومخابرات سورية، وتم التركيز على شخصيات مدنية رعت المصالحات ما بين الأهالي والدولة السورية، والتي معظمها لم يغادر المدينة أو المحافظة طوال فترة الأزمة، أو ممن يعملون في دوائر الدولة. حيث تتبجح المواقع المعارضة بأن الاغتيالات تأتي في إطار تجديد الثورة، وهذا كلام خطير، ومعناه أن هناك من لا يزال يعمل على تأجيج الحرب السورية مرة أخرى ومن درعا بالذات. ويبدو أن الأزمة السورية في درعا لم تنتهِ بعد، فصحيح أن درعا لم تعد تشهد تجول المدنيين بشكل علني بالسلاح، إلا أن السلاح الفردي لم يجمع بشكل نهائي، ودليل ذلك أن الاغتيالات بمعظمها تتم بواسطة السلاح الفردي، والذي يضرب منفذوه ويهربون، وهذا يشير إلى أن هناك أياديَ غريبة ما تزال تلعب في المحافظة. وفي الوقت ذاته، لا يمكن القول إن من يقوم بهذه الأعمال يتمتع بحاضنة شعبية في داخل قرى وبلدات درعا، خاصة وأن الاغتيالات تطال بكثافة أهالي المحافظة أكثر من غيرهم.
ما يذكره موقع biladynews.com تكرر في مواقع متعددة مثل enabbaladi.net أو xeber24.org، فإن الأخبار ذاتها حول الاغتيالات أو الاختطاف تتكرر. الاغتيالات تتم بطريقة ممنهجة، وذات أبعاد أعمق بكثير مما يبدو منها على السطح. وقد بدأت الاغتيالات منذ شهر آب/ أوغسطس من العام 2018، ومن هذه الاغتيالات ثلاثة اغتيالات تمت خلال خمس ساعات متتالية وفي نفس اليوم، وهي: اغتيال فوزات زين العابدين، الذي اغتيل على الطريق ما بين جلين وسحم الجولان، ومهران السيطري في المزيريب، وهو فلسطيني ويعمل مع الفرقة الرابعة، وعدلي الحشيش، الذي اغتيل في ريف درعا الغربي في اشتباك في بلدة المزيرعة على طريق الأشعري، هو قائد سابق لفصيل “الضباط الأحرار”، وكان يقيم في الأردن، وحين قتل كان يعمل مع الأمن العسكري. كما وثق مكتب “توثيق الشهداء” في درعا، منذ شهر آب من العام 2018 وحتى أيلول 2019، اثنين وثلاثين عملية اغتيال أدت إلى مقتل 18 شخصاً وإصابة 13 آخرين توزعت في مدن وبلدات درعا نفذ منها أربع وعشرون عملية في ريف درعا الغربي، وثلاث عمليات في الريف الشرقي، ونجا شخص واحد.
الاغتيالات لا تطال عناصر أو شخصيات من المصالحات من طائفة محددة دون غيرها، ففي نفس السياق تم اغتيال أوس كمال البطيح في 19 تشرين الأول/ أكتوبر في بلدة صيدا في ريف درعا الشرقي، من قبل مسلحين على دراجة نارية. والبطيح هو في الأساس من قرية داعل والتي تبعد 14 كم شمال مدينة درعا، وداعل أول من دخل في المصالحات التي شهدتها محافظة درعا. وقبل ذلك في 16 من الشهر نفسه تم اغتيال الدكتور قصي نادر الحلقي في عيادته في جاسم في ريف درعا الغربي بمسدس كاتم للصوت. والحلقي، هو مؤسس اللجان الشعبية، ولم يغادر بلدته طوال سنين الحرب في درعا، ولكن ما يجعل اغتيال الحلقي أمرا يجب الوقوف عنده، أنه أخ رئيس مجلس الوزراء السوري السابق الدكتور وائل الحلقي. وأنه لأول مرة وبعد اغتياله يتم الإعلان عن أسماء فصائل خاصة بالاغتيالات في درعا منبثقة عن الجيش الحرّ، ومنها “كتائب أبابيل الثورة”. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر اغتيل رئيس مركز أمن الدولة في إنخل بدرعا الرائد علي جبور، بمسدس كاتم للصوت في داخل سيارته. اقتراب القتلة بمسدس كاتم للصوت، وخاصة بما يتعلق بالرائد جبور أو حتى بالدكتور الحلقي، يدل على أن الضحيتين يعرفان من اغتالهما، وأنهما قد سمحا لهما بالاقتراب منهما، مع العلم أن التصريحات المتتالية تحاول تجنب اتهام مقربين من الشخصيات والذين يعدون من المعارضين في مناطق المصالحات.
تركز الاغتيالات في ريف درعا الغربي، أمر ملفت! ويعد غاية في الخطورة لأنه استهداف صريح لسيادة الدولة السورية على كافة أراضيها. وبالنظر إلى الخريطة السياسية للمنطقة يتضح أن الريف الغربي يمتد في منطقة وافرة المياه، تكثر فيها الينابيع العذبة، التي تغذي نهر اليرموك الذي يرفد نهر الأردن أهم الأنهار التي يعتمد عليها الكيان العبري في الشرب والسقاية. كما أن منطقة جلين المرتفعة فوق وادي اليرموك تشرف على أراضي فلسطين المحتلة وتبعد عنها مسافة لا تتجاوز العشرين كيلو متراً. وبالتالي يمكن فهم أهمية موقع ريف درعا الغربي وخطورته في أية معركة قد تبدأ مع الكيان الصهيوني، أو في حال الشروع بأية مقاومة شعبية من أجل استعادة الجولان المحتل. ولا يخرج القصف الإسرائيلي في تموز/ يوليو 2019، الذي طال تلة الحارة التي حررت في العام 2018 عن هذا الإطار. اذ يبعد التل مسافة 12 كم عن الجولان المحتل. وتتميز تلة الحارة بموقعها الإستراتيجي المطل على الأراضي المحتلة في الجولان، والأردن حتى مدينة إربد، والداخل السوري حتى مدينة الصنمين على حدود محافظة دمشق تقريباً، دخل الحارة عناصر من مكالة الاستخبارات الأجنبية “موك” مع عناصر من الموساد الإسرائيلي بمساندة من المسلحين في العام 2014، وهذا يدل على الخطر الذي تستشعره “اسرائيل” من جراء تحرير التل وتحرير ريف درعا الغربي.
من المعلوم، أن فلول داعش (التي شكلت السد المنيع على الحدود مع الجولان المحتل منذ دخولها إلى المدينة في العام 2015) توجهت بعد التحرير إلى غربي ريف درعا عند الحدود مع الحمّة السورية المحتلة. وبالتالي فإنّ العناصر المخربة تتواجد بكثافة هناك، ويتم من خلالها تهريب السلاح وتدريب العناصر التي تقوم بالاغتيالات في معظم قرى ومدن المحافظة. والهدف من ذلك زعزعة الأمن والاستقرار والتشكيك بقدرة الدولة السورية على الإمساك بزمام الأمن وإدارة الأزمة في درعا، ودعم تجذر المعارضة التي تنازع في داخل المحافظة.
تعتبر الاغتيالات جزءا لا يتجزأ من الحرب على سوريا، والتي تسعى من خلالها لإفراغ المجتمع من مبدعيه وشبابه وقادته، وبخاصة القادة الأمنيين، في محاولة لتشتيت المجتمع والوصول به إلى حالة من الاستكانة والخضوع، أو الوصول إلى الفوضى، وبالتالي فإن ذلك يسهل على الكيان الوصول إلى غاياته في المنطقة المستهدفة، وأما أهدافه من خلق حالة من الفوضى أو عزل ريف درعا الغربي فتصب في محاولاته للسيطرة على مياهها النقية المتدفقة نحو نهر الأردن وتأمين الحدود الشرقية لهضبة الجولان ولا نبالغ إذا قلنا إنّها تمتد حتى حدود جبل الشيخ. وبالتالي فإن الحرب على سوريا لا تنتهي بانتهاء معركة ادلب، وإنما بإنهاء حرب الكواليس في درعا.
العهد