أردوغان لا يحرق سفنه… الاحتمالات مفتوحة على سيناريو اعزاز
عبد الله سليمان علي
وصل مأزق السياسة التركيّة في إدلب إلى نقطة الذروة واضعاً حكّام أنقرة أمام خيارات صعبة لا يحسدون عليها. وما كان حتى الأمس القريب مناورات مكشوفة لشراء الوقت بانتظار متغيرات إقليمية ودولية، تحوّل بفعل التطورات الميدانية إلى انهيارات متسارعة اضطرت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى وضع ملف إدلب على رأس قائمة اهتماماته.
رغم أن مسار الأحداث في الشمال السوري يتجه نحو ترجيح احتمال حدوث مواجهة سورية – تركية على خلفية سقوط قتلى من الجنود الأتراك، تشير التجارب السابقة مع التهديدات التركية إلى أن أفعال النخبة الحاكمة غالباً ما تأتي مخالفة لأقوالها.
أفرغ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطاب ألقاه يوم أمس الأربعاء، ما في جعبته من تهديدات تتعلق بوضع سقوف محددة لتوجهات السياسة التركية بخصوص منطقة خفض التصعيد في إدلب.
ورغم تواصل نزيف الدم التركي حيث سقطت مجموعة جديدة من الجنود الأتراك قتلى في قميناس، كان من اللافت تمسك الرئيس التركي بمهلة نهاية شهر شباط/فبراير كموعد مفترض لبدء التحرك ضد تقدم الجيش السوري الذي يبدو أنه يعمل على قطع الطرق المؤدية إلى معبر باب الهوى الاستراتيجي الذي يعتبر بمثابة شريان الحياة بالنسبة للفصائل المسلحة في إدلب.
لا يمكن فهم التهديدات التي أطلقها أردوغان إلا على خلفية هذا الاستمهال التركي الذي لا يخرج في إطاره العام عن سياسة شراء الوقت التي انتهجتها السياسة التركية منذ البداية لإدارة ملف منطقة خفض التصعيد الرابعة. وهذا يدلّ على أن تركيا ما زالت تراهن على إمكان حدوث متغيرات من شأنها أن تفتح لحكام أنقرة طاقة الخلاص من المأزق الذي يواجهونه في هذه المنطقة، سواء على صعيد موقف الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية بخصوص عملية الجيش السوري في إدلب، أو على صعيد المفاوضات المتواصلة مع الجانب الروسي بهدف إيجاد أرضية جديدة للتفاهم تحل محل اتفاق سوتشي أو تقوم على الأقل بإيضاح بنوده بما يجعل تنفيذها لاحقاً غير محرج للسياسة التركية المأزومة.
وكالعادة، جاء خطاب الرئيس التركي أمام كتلة حزب العدالة والتنمية البرلمانية “حمّال أوجه” وغير حاسم في تحديد الخيارات التي تتبناها القيادة التركية. ويلخّص هذا الخطاب الملتبس طبيعة السياسة التركية التي تقوم على قراءة ردود أفعال الآخرين ومحاولة التسلل عبر ثغراتها بدل صياغة استراتيجية محددة وواضحة.
وقد صدرت عن الرئيس التركي جملة من التهديدات المتعلقة بوقف تقدم الجيش السوري وإجباره على الانسحاب إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية، وكان أهمّ ما ورد على لسانه تهديده بأن “الطائرات التي تضرب المناطق السكنية لن تكون قادرة على التحرك بشكل مريح” وكذلك تأكيده على أن الرد التركي على أي استهداف للنقاط التركية لن يلتزم بحدود إدلب فقط، فضلاً عن تلويحه باستخدام اتفاق أضنة كذريعة لضرب الجيش السوري حسب قوله.
لكن من جهة أخرى أمكن تتبع بعض المؤشرات التي وردت في خطاب أردوغان تدل على أن الأخير لم يحسم قراره بعد ولم يذهب إلى حرق سفنه توطئةً لفتح الباب أمام المواجهة العسكرية مع الجيش السوري ومن ورائه روسيا وإيران.
أهم المؤشرات السابقة، تمسك الرئيس التركي بمهلة نهاية شباط/فبراير وهو ما يدل على أن تقييم القيادة التركية للوضع في إدلب ليس فيه ما يدعو إلى العجلة والتحرك السريع. كذلك كان من الواضح أن الرئيس التركي لم يتبنّ مقولته السابقة حول انتهاء مساري استانا وسوتشي، بل على العكس جاء خطابه مبنياً على فرضية مطالبة الجيش السوري بالتقيد بحدود اتفاق سوتشي. وفي هذا دلالة صريحة على أن الرئيس التركي لا يملك حتى الآن أية بدائل تجعله يتخلى عن الجسور التي مدّتها الدبلوماسية الروسية.
غير أن المؤشر الأهم، هو حديث إردوغان عن وجود فصائل محسوبة على المعارضة السورية تقوم بممارسات استفزازية يستخدمها “النظام السوري” كذريعة لتبرير عملياته العسكرية. ولا شك في أن أردوغان يقصد بكلامه “هيئة تحرير الشام” التي بات فصلها عن “الفصائل المعتدلة” مطلباً روسياً متكرراً وسبباً لاتهام أنقرة بالفشل في تنفيذ اتفاق سوتشي.
وتنطوي هذا الإشارة على شبه إقرار تركي بالرواية السورية التي تحمّل “هيئة تحرير الشام” مسؤولية تدهور الأوضاع على جبهات إدلب بسبب عملياتها الاستفزازية التي استهدفت مدنيين في العديد من المناطق.
وحتى في هذه النقطة، جاء خطاب الرئيس التركي ملتبساً وغير واضح رغم أنه يتعلق بتنظيم مصنف على قوائم الارهاب التركية والدولية. فلم يسمّ أردوغان الهيئة بالاسم في محاولة على ما يبدو لعدم إغضابها أو جعلها تتخذ مواقف أكثر عدائية قد تضر بالسياسة التركية في المرحلة المقبلة، كما أنه لم يوجه إليها أي تهديد يمكن فهمه ضمن إطار سعيه لتنفيذ اتفاق سوتشي، بل اكتفى بمطالبتها بالتخلي عن الممارسات الاستفزازية.
ومع ذلك فإن تمييز إردوغان بين الفصائل على النحو السابق قد يكون استكمالاً لسلسة تصريحات تركية ذهبت في بعض الأحيان إلى حد التهديد بإمكان شن عملية عسكرية ضد “هيئة تحرير الشام”.
ورغم أن هذا الاحتمال يبدو ضئيلاً وليس ثمة ما يدعمه من المجريات على أرض الواقع، إلا أن ما ورد على لسان الرئيس التركي قد يدل على إمكان أن تتعرض الهيئة لمزيد من الضغوط التركية من أجل تغيير سياستها بما يتلاءم مع متطلبات ومصالح الأمن القومي التركي.
ويشبه الوضع اليوم في إدلب ذلك الذي عاشته مناطق ريف حلب الشمالي في شهر شباط/فبرايى عام 2016عندما تقدم الجيش السوري واستعاد السيطرة على نبل والزهراء ومناطق واسعة أخرى وصولاً إلى مشارف مدينة إعزاز.
في ذلك الحين تصاعدت التهديدات التركية وتزايدت معها احتمالات وقوع مواجهة إقليمية، غير أن التطورات سرعان ما شقّت لنفسها مساراً مختلفاً اختلافاً كلياً. فهل يتكرر سيناريو “استعصاء إعزاز” في إدلب خاصة مع وجود أطر واتفاقات تجعل استنساخه أسهل وأقل كلفةً، أم أن تسارع التطورات سيسبق إمكانية احتوائها وتجد الأطراف نفسها أمام معادلات جديدة تتطلب حلولاً جذرية قبل أن تنزلق الأمور إلى هاوية المواجهة العسكرية؟
المصدر: موقع 180post