لماذا تجاهل الروس الغضب التركي على عمليات الجيش السوري شمالًا؟
لم تكن المرة الاولى التي تقوم بها وحدات الجو الروسية بتقديم دعم جوي فعال ومركز وعنيف، لتغطية تقدم وحدات الجيش العربي السوري في عمليات التحرير التي قام بها على كافة الجغرافيا السورية، فمسار هذا الدعم في عنفه وفي قوته واكب كافة تلك العمليات، في الجنوب وفي البادية ودير الزور وفي حلب وأرياف دمشق وغيرها.
ولكن، اللافت كان في مستوى التغطية الجوية الروسية الأخيرة لعملية تحرير أرياف حلب الشمالية والغربية، وأرياف ادلب الجنوبية، والمحيطة بطريق حلب – دمشق ( ام 5 ، حيث ظهر من خط تركيز ونقل الدعم الجوي المذكور، أن هناك استشراسًا روسيًا لم نعهده سابقًا، ساهم وكعنصر أساسي في مسح أغلب مواقع الارهابيين التي تمت السيطرة عليها، والتي كانت تعتبر المواقع الأكثر شراسة وتحصينًا لهؤلاء من بين مواقعه في الشمال السوري، فما هو سبب هذا الاستشراس الروسي؟ ولماذا تجاهلت موسكو بشكل واضح وفاضح الصراخ التركي واعتراضات الرئيس اردوغان المتوترة وغير المتوازنة؟
بالمبدأ، قامت روسيا بتغطية عملية عسكرية سورية مدعومة من الوحدات الحليفة، هي عملية مفروضة ومطلوبة وضرورية، أولًا لأنها تصب في اطار تحرير سوريا من الارهاب، وثانيًا لأنها تحصيل حاصل لاتفاقات وتفاهمات سابقة مع الأتراك في استانة وسوتشي، كان يجب أن تتحقق منذ نهاية العام 2018، لكن، ظهر مؤخرًا للروس عدة نقاط ووقائع، أملت عليهم التشدد بأكبر قدر ممكن لتغطية العملية، وهذه النقاط يمكن تحديدها بالتالي:
– اذا تجاوزنا موضوع تخلفهم عن تنفيذ التزاماتهم في سوتشي، لم يستطع الأتراك منع اطلاق الطائرات المسيرة عن قاعدة حميميم الروسية، والتي تكاثرت في الفترة الأخيرة بشكل لافت وفعال. وتفيد بعض المعطيات غير المعلنة أو المؤكدة، عن سقوط عدة اصابات في صفوف الوحدات الجوية الروسية، الأمر الذي اعتبرته موسكو تحديًا تركيًا صارخًا ووقحًا، وعلى الأقل اذا لم يكن تواطؤًا، اعتبروه فشلا وعجزا عن تحمل مسؤولية الرصد، والتي من المفترض أن تقوم بها نقاط المراقبة التركية الموزعة بين مواقع اطلاق تلك الطائرات المسيرة.
– النقطة العسكرية الاخرى، والتي لها طابع حساس بالنسبة للروس، اقدام الأتراك على تزويد الارهابيين بصواريخ مضادة للطائرات، أميركية الصنع، اسقطوا بها طوافتين ( صنع روسي) للوحدات الجوية السورية، الامر الذي اعتبرته موسكو تجاوزا للخط الاحمر ولقواعد الاشتباك، بما في ذلك من خطر يمتد الى أبعد من المواجهة مع الجيش السوري او الروسي، الى امكانية تسببه باعمال ارهابية ضد سلامة الطيران المدني، بعد حصول هؤلاء الارهابيين على تلك الصواريخ المضادة للطائرات.
– تعمَّد الأتراك وبطريقة واضحة وعلنية، إدخال مئات الآليات المدرعة وناقلات الجند واسلحة الدعم والمساندة الى الاراضي السورية، متجاوزين وجوب التفاهم أو التوافق مع الروس على ذلك، بالاضافة الى اقدام الوحدات التركية على نشر نقاط مراقبة على محاور تقدم الجيش السوري، بقرار أحادي دون اعلام الجانب الروسي، الأمر الذي اعتبرته موسكو، أيضًا، تجاوزا لتفاهم سوتشي وللخطوط المتفق عليها مع انقرة، والتي تحدد وتقيد الوجود العسكري التركي داخل الاراضي السورية.
هذا في الاطار العسكري الميداني المتعلق بتحرك الوحدات التركية في الشمال السوري، وبعلاقة الدعم والتواطؤ التركي مع الارهابيين، أما في الاطار الاستراتيجي الأبعد، فقد اكتشف الروس عدة نقاط، شكلت علامات استفهام، تجاوزت فيها أنقرة الموقف أو العلاقة مع روسيا، ويمكن تحديدها بالتالي:
– بعد تطور الأحداث في ليبيا، اكتشف الروس أن تركيا، وبعد أن فقدت أي أمل باستغلال رعايتها وتأثيرها على مسلحي ادلب، في سبيل الفوز بنقاط رابحة ميدانيا وسياسياً في الشرق السوري، نقلت مناورة الاستغلال تلك الى الملف الليبي وذلك من خلال دعم حكومة السراج، والتي تم توقيع اتفاق أمني واقتصادي معها، بهدف امتلاك موقع متقدم في معركة الغاز شرق المتوسط، بمواجهة الاتفاق المصري اليوناني الاسرائيلي.
– هنا، اعتبرت روسيا الأمر وكأنه تواطؤ تركي ضد سياستها، من خلال دعم السراج بمواجهة الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر، والذي طالما دعمته موسكو كطرف شرعي قوي، قادر على لعب دور مساهم في إيجاد حل معقول للازمة الليبية، والأخطر كان في نظر موسكو، ان تقوم تركيا بربط تأخيرها تنفيذ اتفاقات سوتشي، ريثما تجد الفرصة المناسبة لنقل وزج ارهابيي ادلب وريف حلب الغربي الى طرابلس – ليبيا، خدمة لاجندتها ومناورتها المذكورة أعلاه.
– النقطة الأخرى والتي نبَّهت الروس على سلوك انقرة غير المطمئن، كانت في هرولة الأخيرة بالخفاء نحو واشنطن، طالبة الدعم الأميركي لمواجهة الضغط الروسي الايراني السوري في معارك الشمال السوري، الامر الذي حصل اعلاميا فقط دون اية اجراءات اميركية عملية على الارض، حيث ساوم الاميركيون وكعادتهم كشرط لدعم انقرة، بوجوب اجراء تغيير في التموضع التركي الاستراتيجي مع روسيا، الامر الذي وجدته انقرة مُكّلِفا وغير قادرة على تحمل تبعاته.
انطلاقا من كل تلك النقاط والوقائع، حسمت موسكو أمرها، وبشكل متشدد، دعمت بقوة عملية الجيش العربي السوري الأخيرة في الشمال، وبمعزل عن محاولات الاتراك الاخيرة (سياسيًا وديبلوماسيًا وميدانيًا) وقف تدهور وسقوط مواقع الارهابيين الذين ترعاهم، لا يبدو ان روسيا قد اقتنعت بتخفيف هذه التغطية الجوية والدعم الديبلوماسي، على الأقل قبل اكمال تحرير ما تبقى من مواقع حيوية للارهابيين في دارة عزة وفي الاتارب وصولًا الى معبر باب الهوى، وعلى الأقل ايضًا قبل تحرير طريق حلب اللاذقية (ام 4).
شارل ابي نادر _ العهد