ما لم يقله هيكل… هل أوصى “الأستاذ” بنشر مذكراته بعد 30 سنة؟
قليلون أولئك الذين يمكن وصفهم بالأساطير. يعمل ملايين البشر في مهن مختلفة، وفي كل مهنة هناك نوابغ، ومن بين هؤلاء النوابغ يخرج من يمكن وصفهم بـ”الأسطورة”، وهذه درجة لا يصل إليها الكثير.
هؤلاء، الأساطير، يحملون ما لم يستطع غيرهم حمله، لديهم إمكانيات وقدرات خاصة تضعهم في أول الصفوف بين أقرانهم، يروح الزمان ويأتي ويبقى هؤلاء على القمة. من بين هؤلاء وبلا أية مبالغة الصحفي المصري محمد حسنين هيكل، الذي تمر اليوم 17 فبراير/ شباط الذكرى الرابعة لرحيله.
ومن بين مظاهر أسطرة هيكل أنه عند الحديث عن الصحافة، ومجرد ذكر كلمة “الأستاذ”، يفهم المتلقي أن المقصود هو هيكل، ولا أحد غيره.
فكري أباظة، محمد حسنين هيكل، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، علي أمين ومصطفى أمين، كامل الشناوي، في أخبار اليوم pic.twitter.com/GW6BpGVX1v
— شركس (@karimgamal65) February 17, 2020
سأل أحد المقربين من هيكل عن صحة الأستاذ، وكان ذلك قبل وفاته بساعات، فأجاب بـ”أنه قرر أن يموت”، هكذا لخص شخصية هيكل في جملة واحدة، يفعل ما يريد حتى مع الحدث الأكبر والأصعب، الوفاة.
لا يصبح الإنسان أسطورة من الفراغ، وإنما هو نتاج سنوات من الجهد والعمل والإخلاص، واستغلال الفرص، ولا يخلو الأمر بالطبع من الصدفة.
بدأ هيكل حياته الصحفية، مع صحيفة “الإيجيبشان جازيت”، كصحفي تحت التمرين بقسم المحليات، بعد مساعدة الصحفي سكوت واتسون له، كان ذلك في 8 فبراير 1942، وكانت مهمته جمع أخبار الحوادث، وأنجز وقتها تحقيقه الصحفي الأول عن إلغاء ممارسة البغاء في مصر، وأجرى لقاءات مع فتيات الليل بعد القرار الملكي وقتها.
في هذه الفترة اشتعلت الحرب العالمية الثانية، وكلفته إدارة “الإيجيبشان جازيت”، وكانت وقتها المطبوعة الأجنبية الأولى في مصر، بالذهاب إلى العلمين التي شهدت أشرس معارك الحرب العالمية الثانية، وهكذا دخل هيكل عالم الصحافة ولم يخرج منه إلا بوفاته.
تنقل هيكل بين عدد من المطبوعات المصرية، وتابع أخطر الأحداث حول العالم، من حرب فلسطين 1948، وثورة محمد مصدق في إيران، وإلى الانقلابات العسكرية، والاغتيالات التي طالت زعماء وملوك ورؤساء دول. (اغتيال الملك عبدالله في القدس واغتيال رياض الصلح في عمان واغتيال حسنى الزعيم في دمشق).
ولأنه أسطورة، فكان 18 يونيو 1952 شاهدا على تعيينه وهو في سن 29 عاما، كرئيس تحرير لمجلة “آخر ساعة” خلفا لرئيس علي أمين، وهو أيضا واحد من أبرز الصحفيين المصريين.
بعد حوالي شهر، أعلنت حركة “الضباط الأحرار”، الانقلاب على الملك، وإنهاء الملكية وإقامة دولة بنظام جمهوري، وفي هذه الفترة توطدت العلاقة بين هيكل وزعيم الحركة جمال عبد الناصر، ليصبح بعد فترة المتحدث الرسمي باسم حركة “الضباط الأحرار”، وواحدا من أكبر المنظرين لها ولسياستها، وبحسب رواياته شخصيا في أحاديث تلفزيونية وكتاباته، كان عبد الناصر يستشيره في أخطر القرارات، والتي من بينها مثلا قرار تنحي عبد الناصر عن الحكم بعد هزيمة 1967، واختيار خليفته في الحكم، وهيكل هو من كتب خطاب التنحي الشهير لعبد الناصر.
في عام 1957 عين هيكل رئيساً لتحرير جريدة “الأهرام”، وظل في هذا المنصب حتى عام 1974، وفي تلك الفترة وصلت “الأهرام” إلى أن تصبح واحدة من الصحف العشرة الأولى في العالم.
وفي “الأهرام” كان يكتب مقاله تحت عنوان ثابت باسم “بصراحة”، ونشر أول مقال بها يوم 10 أغسطس 1957 بعنوان “السر الحقيقي في مشكلة عُمان”، بينما كان آخر مقال له في 1 فبراير 1974 بعنوان “الظلال والبريق”.
وبعد أزمته مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، كان هيكل يكتب في كبريات الصحف الأجبنية، منتقدا سياسات السادات في التعامل مع نصر أكتوبر، وغيرها ما دفع السادات لاعتقال هيكل ضمن اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة.
اعتزل هيكل الكتابة المنتظمة والعمل الصحفى في 23 سبتمبر 2003 بعد أن أتم عامه الثمانين، لكن هذا لم يكن يعني أنه انفصل عن الصحافة وواقعها، فنداهة الصحافة التي ندهته في أربعينات القرن الماضي ظلت مسيطرة عليه، وصنع منها شبكة علاقات واسعة، جعلته يلقب بالصحفي صديق الرؤساء والملوك، والشخصيات المؤثرة في العالم، إذا أجرى مع أغلبهم لقاءات وأحاديث صحفية.
https://youtu.be/wPUbsb-h6GU
وتميز هيكل عن غيره من الصحفيين أنه كان حريصا على جمع وتوثيق كل الأحداث التي عايشها، وكان يملك مكتبة ضخمة من الوثائق والمستندات النادرة.
ويبدو أن هيكل أراد أن تستمر أسطورته حتى بعد وفاته، فالسبت الماضي، نشرت صحيفة “الدستور” المصرية، حورا صحفيا مع خالد عبد الهادي، وهو مثقف ورجل أعمال فلسطيني يعيش في الأردن، وكان من أكثر المقربين لهيكل، وفي الحوار حسم عبد الهادي الجدل حول كتابة هيكل مذكراته، وقال “بشكل يقينى كتب هيكل مذكراته، لكن لست متأكدًا إذا ما كانت تعرضت للحرق فى أغسطس 2013، عندما أغار شيطان على منزله الريفى فى برقاش، فأحرق النسخة الوحيدة التى أودعها هناك ومعها كنوز أخرى أم لا؟”. (وهو الحريق الذي دمر وثائق نادرة ولوحات فنية كانت في مكتبة هيكل في بلدة برقاش بالجيزة).
وأضاف “بحكم معرفتى بطبيعة صاحبها أعتقد وجود نسخ أخرى، وهناك من قال لي إن المذكرات ستنشر بعد 30 سنة، وهو ما لا أعتقده فيه لأنه يخالف نهج وطريقة تفكير الأستاذ”.
ويحكي عبد الهادي عن لقاء جمع هيكل بالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، يقول كان هذا في 1975، واللقاء كان في العراق، وكان وقتها ما زال نائبًا، وبمجرد أن رأى صدام أمامه هيكل احتضنه بشدة وهو يقول له: “ظلمناك يا أستاذ. كل مقالة كنت تكتبها كنا نبدأ من بعدها في تصنيفك مرة بالعميل الأمريكاني، وأخرى كعميل روسي وهكذا، لكن بعد أن وصلنا إلى الحكم وعرفنا ما يدور داخل الكواليس التمسنا لك الأعذار”.
سبوتنيك