جميعنا نمتلك واحدةً على الأقل… تعرف على أشهر العقد النفسية
كما أن للإنسان شقٌ جسديّ يطاله السقم ويتعبه المرض، فإن له كذلك شقٌ نفسيٌّ تخترقه عِللٌ ليست بأقلّ خطورة ولا تأثيرًا على حياة أحدنا من أعتى الأمراض الجسدية، أمراض قد تستهلكنا من الداخل وتؤثّر في مجمل تصرّفاتنا وتفاصيل حياتنا حتى دون أن نشعر بذلك. وهذا ما يُطلق عليه في علم النفس مصطلح الأمراض أو العقد النفسية (Complexes Psychological).
وسواءً أكنت ضلوعًا عالمًا في علم النفس أم كنت مهتمًّا لجوجًا في معرفة مفاهيمه ومبادئه، لا بُدّ أن تكون على علمٍ بأن المشاكل والعقد النفسية تمثّل صُلب ونواة المعالجات النفسية بشتى ميادينها، فلكلّ نوعٍ من العقد النفسية خصائصه وصفاته التي يتميّز وينفرد بها، وكذلك أنماط علاج مختلفة لتدبيرها. وفي مقالنا هذا سنخوض رحلةً نستعرض في سطورها تفاصيل أبرز العقد النفسية في علم النفس وكيفية تجسّدها ومعالمها المختلفة.
ما هي العقدة النفسية
قد يجيب أحدهم بأنها جملة من التراكبات والتداخلات النفسية (المعنى الحرفي لكلمة عقدة)، وهذا في الواقع فيه إصابة لشيء من المعنى الصحيح لها، إلا أنه بالرغم من ذلك فإن معنى العقدة النفسية عميق لدرجة أن هناك من علماء النفس من نذر حياته لفهم طبيعة هذه الحالة النفسية التي تُدعى بالعقدة.
العقد النفسية بمفهومها المبسّط هي فكرة أو جملة من الأفكار المركّبة والمترابطة مع شحنةٍ عاطفيّة قوية تسري فيها. قد لا يتذكّر أحدنا كيف بدأت عنده أو حتى ما التفاصيل التي أوعزت لها بالظهور في حياتنا، ولكن الأمر الحتميّ هو أنها قد تستحوذ بشكل كاملٍ أو جُزئي على حياتنا وتصرّفاتنا بشكلٍ لا شعوري. ويمكن تشبيهها بنقطة عمياء ضبابية في تفكيرنا.
ويقول الكاتب والفيلسوف الشهير روجيه موكيالي في كتابه (العقد النفسية):
“علينا أن ندرك أن العقدة النفسية ليست فقط اندماجًا فكريًا وعاطفيًا حاضرًا في الوعي، وإنما هي أيضًا محتوى هذا الاندماج الذي يوحي بدفاع الأنا ضد الأفكار والذكريات وحتى الأحاسيس التي تثيرها مثيرات الواقع الحاضر”.
سننقسم في مقالنا هذا إلى شقّين اثنين، نتناول في الأول العقد الكبيرة ذات الوَقع القاسي على مجريات حياة الشخص، لنُتبعه بعدها بالشقّ الثاني الذي سنستعرض فيه العُقد المتأّصّلة ذات الطابع الأخفّ ضررًا، وكذلك العقد النفسية اليومية التي لا تحمل اسمًا ثابتًا.
العقد النفسية الكبيرة
عقدة البطل
أُولى العقد النفسية في قائمتنا. وكما يشير الاسم فالأشخاص المصابون بهذه العقدة يكونون على قدرٍ كبيرٍ من الحاجة إلى تقدير ذاتهم ممن حولهم. فغالبًا ما يصفون الأحداث التي تحصل معهم على نحوٍ بطولي لا يخلو من الكثير من المبالغات بُغية الإحساس بالتقدير الذاتي.
وغالبًا ما نلاحظ هذا النوع من العقد النفسية عند الأشخاص الذين يكونون دون المستوى المطلوب في وظائفهم، ولكن بالرغم من ذلك هم يحتاجون إلى التقدير. هذا يعني أن أحدهم سيكون على استعدادٍ لاختلاق إنجازاتٍ له في وظيفته ومدى الصعوبات التي تواجهه فيها، على أمل أن تبدي له بعض التقدير الذي لا يتلقاه في عمله. دون أن نذكر أنّ هؤلاء الأشخاص يعمدون إلى لعب دور المُنقذ في الكثير من المواقف التي يُصادفونها مع من حولهم بالرغم من أن هذا قد يشكل عبئًا كبيرًا عليهم.
والأمر المُحزن في الواقع أن الاستغراب الذي تُستقبل به تصرفات هؤلاء الأشخاص ممن حولهم يزيد من حالة الحزن والاكتئاب التي تتملّكهم، لذلك يُعتبر الإحباط من أكثر مضاعفات عقدة البطل شيوعًا والتي تحتاج إلى استشارة ومعالجة نفسية مناسبة.
عقدة الذنب
هذه العقدة تعتبر من أصعب العقد النفسية وأشدّها وطأةً على من يعانون منها. إنها عقدة أولئك الذين يعيشون -بشكلٍ شبه دائم- في الشعور بالخطيئة الذاتية، خوفًا من العمل السيّئ، وفي خجل مستمر من أنفسهم. هؤلاء الأشخاص يحيطون أنفسهم بدائرة من اللوم المستمر لذواتهم لأي خطب يجري لمن حولهم، فالاتهام الذاتي يجسّد ردة فعل دائمة لكل عمل لا يُكلّل بالنجاح.
بالكاد يستطيعون لوم غيرهم، وغالبًا ما ينسبون سببية كل شر وتبعاته إلى أنفسهم، مالئين قلوبهم بمشاعر البغض والكراهية تجاه ذواتهم. وغالبًا ما يُعزى سبب تأصّل هذه العقدة النفسية فيهم إلى حدثٍ ذي وقع كبير وسيئ لم يتمكّنوا من درئه في ماضيهم.
والأمر الجدير بالذكر هنا هو الترابط الوثيق بين عقدة الذنب هذه وعقدة الفشل، فالأشخاص الذين يعانون من عقدة الذنب يتملّكهم إحساس عارم بعدم الثقة بالنفس والذي يودي بهم في نهاية المطاف إلى الفشل في مختلف المهام الحياتية التي تصادفهم.
ولا بُدّ من التداخل والاستشارة النفسية من أجل معالجة هذه العقدة، بالرغم من الصعوبة البالغة في حلّها، فتجاوزها والشفاء الكامل منها يتطلّب تحليلًا نفسيًّا عميقًا مع المتابعة المستمرّة للمحافظة على سوية طبيعية لها.
عقدة الخطر أو اختلال الأمن
أما هذه العقدة النفسية فالكثيرون يعتبرونها الأكثر تدميرًا لحياة الشخص المُصاب بها، والذي يعيش في خوف مستمر وهلع وترقّب دائمين للخطر من حوله، فيظُنّ أن خطرًا محدقًا سيحلُّ به في أي حين. كما ويتخيّل المُصاب وجود شخص أو مجموعة من الأشخاص تراقبه وتترصد به لتوقع به الأذى. الأمر الذي يُضفي شعورًا بعدم الأمان، حتى مع تواجده في بيئة مؤمّنة. كما ويتولّد لديه شكٌّ مستمرٌّ بالآخرين وانعدام ثقةٍ عميق يؤثر تدريجيًا في علاقاته الاجتماعية على مختلف الأصعدة.
وإن ما يميّز المُضطرب هو غياب المحاكمة العقلية للتمييز بين الممكن أو المُحتمل وبعيد الاحتمال، مما يجعله يتخيّل أنّ نزيفًا بسيطًا في اللثة على أنه مؤشّرٌ لإصابته بسرطان، أو أنّ الانزلاق على قشرة موز قد تودي به إلى الشلل التام. ترقّبٌ وتوهّمٌ مستمرّين لا يكادان ينفكّان عن تقييد معظم تصرّفاته، الأمر الذي يجعل من أسلوب حياة المُصاب جحيمًا لا يُطاق.
تجاوز عقدة الخوف يحتاج إلى استشارة نفسيّة بالإضافة إلى تغير شبه جذري لنمط الحياة الحالي للشخص المُصاب، على أمل تفادي الظروف المحيطة والتي تولّد معالم هذه العقدة.
العقد النفسية الصغيرة
تطرّقنا في القسم الأول من موضوعنا عن أبرز العقد في علم النفس إلى مفهوم العقدة النفسية وأنواعها، وتعرّضنا إلى الشق الأول منها والذي وصفناه بـ “العقد الكبيرة” وصفاتها، واستعرضنا معًا كيف تؤثّر على حياة من يعانون منها وكيف تتصف أساليب حياتهم وكيف تتأثر بها.
لنتابع بعدها في قسمنا الثاني هنا تتمّة لأبرز أنواع العقد الأخرى والتي نصفها بأنها “أقل وقعًا” على حياة الأشخاص الذين يعانون منها، ولكن وبالرغم من ذلك يكون لها تأثير واضح على حياتهم وتصرفاتهم. لننطلق الآن إلى وصف هذه العقد ومعالمها وكيف تتجسّد لدى المُاصبين بها.
عقدة الدونيّة
يُسيطر على من يعاني من هذه العقدة شعورٌ عارمٌ بعدم الكفاءة، بل إنه قد ينتهي به المطاف أن يخال المرء نفسه فاشلًا في جميع المقاييس وعلى كافة المستويات. لا بُدّ أن معظمنا يمرّ بتلك الأوقات عندما نشعر بأننا لا ننجح بتحقيق ما نريده ونصبو إليه، إلّا أن المصابين بعقدة الدونيّة يتملّكهم هذا الشعور طوال الوقت ويقيّد جميع أعمالهم وتصرفاتهم.
يخالج المُصاب إحساسٌ دائمٌ بالفشل وعدم القيمة مقارنةً بالآخرين. الأمر الذي يطوّق نجاحهم في أي مجال من مجالات الحياة ويسوقهم إلى الانعزالية وإهمال أنفسهم، حتى أنهم قد تصل الحال بهم إلى رفض أي إطراء من قبل الآخرين عليهم، أو حتى ردّ أي مساعدة من الأشخاص من حولهم بحُجّة أنهم لا يستحقّون أي مجهود يُبذل لأجلهم. ولا بُدّ من الحصول على الاستشارة النفسية لهؤلاء الأشخاص.
عقدة الفوقيّة
هذه العقدة النفسية معاكسة تمامًا لسابقتها، فالأشخاص الذين تمسُّهم هذه العقدة يظنُون، لا بل يؤمنون تمامًا، بأنهم أفضل من جميع ممن حولهم، وأن جميع البشر الآخرين ليسوا سوى أُناسًا دونيّين وعديمي القيمة. حتى أن هؤلاء الأشخاص لا يشعرون بأنهم بحاجة إلى إظهار تفوّقهم على الآخرين، فهم مُسبقًا يصبغون كل من سواهم بصبغة الدونيّة.
والأمر الوحيد الذي يرضيهم هو وجودهم هم أنفسهم فقط. وإذا ما تنازلوا وشاركوا الآخرين نشاطاتهم فيكون ذلك لأسباب استراتيجية فقط “إن صحَّ التعبير”، غيرُ قادرين بذلك على تطوير علاقات حقيقية صادقة مع الآخرين.
عادةً ما تكون هذه العقدة وراثيّة، إلّا أنّه في حالات نادرة تكون مكتسبةً من البيئة المحيطة. وهي ليست بحاجة إلى استشارة إلّا إذا تملّكت الشخص وسيطرت عليه بالكامل.
عقدة الوحدة
تنبُع هذه العقدة من خلال التجارب والأحداث السيّئة التي حدثت للإنسان مع العالم الخارجي. فتسود في ذهن المُصاب فكرة أنّ “بقائي وحيدًا أفضل من تواجدي مع الآخرين” وهذا يؤدي إلى تجافي المريض وبعده عن التماس والاختلاط مع من حوله.
بالإضافة إلى استحواذ غير مبرر لفكرة أنّ لا أحد يستطيع فهم مشاعره ومعاناته، الأمر الذي يحول بينه وبين بناء علاقات اجتماعية دائمة وسويّة مع الآخرين، دون أن نذكر الشعور الغريب بالسعادة والذي يجده فقط وفقط في الوحدة والانفراد عن جميع من حوله.
يجب محاربة هذه العقدة النفسية عند بداية ظهور بوادرها على الطفل أو اليافع. الأجواء الأسرية الدافئة والصحبة الجيّدة والممتعة ستلعب دورًا كبيرًا في درء تطوّر هذه العقدة، كما أن الاستشارة النفسيّة ستؤثّر إيجابيًا في كبحها ومعالجتها.
العقد النفسية الحياتية العاديّة
سوف ننتقل بعد استعراضنا للعديد من العقد الرئيسية ذات الطابع الاستحواذي على الشخص، سننتقل بعدها إلى ما يُعرف في علم النفس بـ “العقد التي لا اسم لها”، وهي العقد الحياتية التي قد يعاني الكثير منّا منها دون أن يشعر بها، وذلك بسبب تأثيرها المحدود على تصرفاتنا وأسلوب معيشتنا.
يمكن اعتبار العقد التي لا تحمل أسماء في الحياة العادية كردّات فعل عكسية لا إرادية تجاه موقف أو رأي أو حتى تصرّف ما. فعلى سبيل المثال هناك الكثير منّا منا لا يطيق الظلمة وهناك آخرون لا يتحمّلون ملابس السباحة أو الوقوف أمام الجماهير أو حتى لا يستطيعون ركوب المصعد لسببٍ ما يعجزون عن تبريره، وهذه التصرّفات الانعكاسية اللا إرادية ندعوها في علم النفس بالعقد النفسية الحياتية.
بمعنى آخر أنّ لكلٍّ منّا عدّة نقاط حسّاسة (أو مواطن ضعف) والتي، عند تحسّسها أو إصابتها، تطلق نوعًا من التصرّفات الآلية غير الملائمة دون اهتمام بالظروف والصفات الزمانية والمكانية للموقف الراهن.
وهذا النوع من العقد النفسية بسيط جدًا ولا يكاد يؤثّر على حياتنا، بل وإنه في بعض الأحيان يترك طابعًا جيّدًا في بعض تصرّفاتنا، وهو حتمًا لا يحتاج إلى استشارة أو معالجة، ويمكن التعايش معه بشكل إيجابيّ.
بالرغم من العقد النفسية العديدة التي استعرضناها في موضوعنا، إلا أنه لا يزال هناك كمّ هائل من العقد الأخرى الفرعية يضيق المقام بذكرها كلّها. بالرغم من أنّها في مجملها تشترك بنفس الخصائص الأساسية.
وما يجب عليك التنبّه إليه عزيزي القارئ، هو أنه سواءٌ أكنت تعاني أو تعرف أحدًا يعاني من إحدى تلك العقد فلا يعني هذا نهاية العالم، فالاكتئاب واليأس هما العقبة الأساسية التي تقف في وجه تجاوز تلك العقد النفسية. وعلاج هذه العقد كغيره من أنواع العلاج الطبي يحتاج إلى الصبر والمثابرة الدؤوب ومتابعة العلاج باستمرار، وبإمكان أيّ منّا تجاوزها بشكل كامل مع العناية والرعاية الكافية.