الشمال السوري.. هل يتكرر خطأ التاريخ؟
لا تزال بلادنا العربية تعاني من تبعات الحرب العالمية الأولى، وتظهر تلك المعاناة في محاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إعادة أمجاد أجداده.
وإذا ما عدنا إلى الأطماع التركية في الأراضي السورية فحتماً علينا العودة إلى “السناجق الشمالية” أو قيليقية والجزيرة الفراتية العليا وهي مناطق من شمال سورية تمّ ضمها إلى تركيا بموجب اتفاقية أنقرة عام 1921 بين فرنسا وتركيا مقابل اعتراف الأخيرة بالانتداب الفرنسي على سورية.
وقدّرت مساحة هذه المناطق بما يزيد على 18 ألف كيلومتر مربع، وتقع شمال الخط الحديديّ بين اسطنبول وبغداد، الذي استعمل خطاً معدلاً للحدود بين تركيا وسورية في معاهدة لوزان، حتى نقطة التقاء الحدود السورية – العراقية التركيّة حالياً. وهذا ما وضع المناطق التالية ضمن الأراضي التركية: “مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة ومرعش وعنتاب وكلس والبيرة وأورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر”.
إضافة إلى ذلك، فقد مرّ خط الحدود الجديد الذي أقيم فوق سكة الحديد في وسط مدن نصيبين وجرابلس ورأس العين، مما قسمها بين سورية وتركيا.
وتبنّى الحلفاء الاتفاق الثنائي في معاهدة لوزان عام 1923 لترسم خطاً جديداً للحدود بين تركيا من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى.
وخير شاهد على سوريّة هذه المناطق ما ذكره الشريف الإدريسي، في القرن الثاني عشر الميلادي، بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”.. وتشكل هذه المناطق الجزء الشمالي من الهلال الخصيب بما تضمّه من سهول ممتدة وأراضٍ خصبة مثل سهل حران ومصادر مائية وفيرة من خلال أنهار الفرات ودجلة والخابور. وتُعدّ هذه الأراضي جغرافياً جزءاً من سورية الطبيعية، حيث تقع جنوب جبال طوروس، الحد الطبيعي بين سورية وتركيا.
وخلال القرن السابع عشر، نجح العثمانيون بالقضاء على الإقطاعيات والإمارات الوراثية شمال حلب، وأعطيت الأراضي، للإنكشارية وكبار الفرسان العثمانيين المعروفين باسم “سباهية”، فيما أشار بعض المؤرخين إلى أنّ “إلغاء الإقطاعيات وإخضاعها للجيش كان فيه تغليب للعنصر التركي على العنصر العربي”. وبالتالي تعتبر هذه الفترة بداية التغيير الديموغرافي الذي أدى إلى نشوء قضية “الأقاليم السورية الشمالية”.
كما وردت الإشارة إلى هذه الأقاليم ولواء اسكندرون كمناطق متنازع عليها في مراسلات حسين – مكماهون. إذ ذكر الكتاب الذي أرسله حسين بن علي شريف مكة إلى هنري مكماهون الممثل الأعلى لبريطانيا في مصر في 14 تموز 1915، أن “الحدود الشمالية للدولة العربية المستقبلية يجب أن تمتدّ إلى مرسين وأضنة بما يشمل لواء الاسكندرون”، لكن مكماهون اقترح في كتابه الذي أرسله إلى الشريف حسين في 24 تشرين الأول 1915 “فصل هذه المنطقة” زاعماً أن سكانها “ليسوا عرباً تماماً”، فرفض الشريف حسين هذا الاقتراح وأصرّ على رأيه في الكتاب الذي بعث به إلى مكماهون في 15 تشرين الثاني 1915، ولكنه رضي أخيراً بـ”التنازل” عن مرسين وأضنة فقط.
وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، أثناء تقسيم “ممتلكات” الدولة العثمانية بين الحلفاء المنتصرين في الحرب، وبموجب الاتفاق المعقود بين فرنسا وإنكلترا وإيطاليا، في العاشر من آب 1920 أُلحقت هذه المنطقة بمنطقة المصالح الخاصة بفرنسا التي كانت حددتها اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 والتي أقرّت بسيادة فرنسا على الأقاليم الواقعة بين قيليقية والضفة الغربية لنهر الفرات. وبموجب اتفاق آب المذكور وحسب البيان الوارد في المادة “7” تركوا لسورية التي وقعت تحت الاحتلال الفرنسي مدن “كلس وعنتاب وبيره جك وأورفة وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر”. وعندما عقد الحلفاء معاهدة سيفر مع تركيا عام 1920 أقرّت تركيا بـ”منطقتي الاسكندرون وقيليقية كجزء متمّم لسورية”.
إلا أنّ الأصوات المعترضة على الحدود الجديدة كانت قليلة، إذ انشغلت المنطقة بملفات التقسيم الكثيرة، وبهجرة اليهود إلى سورية الجنوبية أي فلسطين وبداية بناء مشروعهم الاستعماري.
كل ما تقدّم لم يلغ رفض لإلحاق هذه الأقاليم بتركيا ونصّ بيان المؤتمر السوري العام وبيان أول وزارة سورية انبثقت عنه في عام 1920 على “وحدة سورية واستقلالها بكامل ترابها”.
إضافة إلى ذلك، قام صبحي بركات وإبراهيم هنانو بتنظيم مقاومة ضد الفرنسيين في تلك المناطق. إذ اتفق هنانو مع الأتراك حينها على دعمه بالسلاح، وعقد الاتفاق مع “صلاح الدين عادل باشا” قائد الجيش التركي في مركز “مرعش”، الذي أمدّ الثورة بالمال والسلاح.
وتضمّن الاتفاق بنوداً عدة أهمها: “تقديم مساعدات للثوار في سورية، العلم الذي سيرفع يكون على وجهين الأول العلم العربي والثاني تركي، يكتب، على الأول إنما المؤمنون أخوة وعلى الوجه الثاني فأصلحوا بين أخويكم . ولا تحدّد حدود بين سورية وتركية إلا بعد جلاء العدو عن أراضيهما وحصولهما على الاستقلال التام. وأنّ المساعدة التركية إلى سورية هي إعانة أخ لأخيه لا لطمع أو مغنم، وتقدّم الحكومة التركية مدربين للثوار على أن يعود هؤلاء إلى تركية بعد تدريب السوريين”. وبسبب حاجة الثورة للدعم قبل هنانو ببعض الشروط التي لاقت اعتراضاً من قادة ثورة الشمال.
كانت تركيا تقصد من ذلك الاتفاق “ابتزاز فرنسا بخصوص ترسيم الحدود”، وهو ما حصلت عليه في “اتفاق لوزان” الذي أعطاها أراضي واسعة، وعندئذ أنهت دعمها للثوار، ولم تقف عند هذا الحد بل بدأت تعمل على اقتطاع لواء اسكندرون، الذي منحته فرنسا حكماً ذاتياً عام 1938 مع بقاء ارتباطه شكلياً بالدولة السورية وفي العام التالي انسحبت فرنسا منه بشكل نهائي عقب دخول القوات التركية وضمّته إلى أراضيها بالتواطؤ مع فرنسا عام 1939.
ما يجري الآن في الشمال السوري، يعيد الى الأذهان كل ذاك التاريخ، والأرجح أننا أمام لحظات مفصلية تقف بين تكرار لعبة ذاك التاريخ في الغرف الإقليمية والدولية، أو تغيير التاريخ لمصلحة أهل الأرض.
الكاتب:سماهر الخطيب- اعلامية
المصدر: خمس نجوم