طريق M4: حل مؤقت لأزمة تركيّة مؤجلة
كسابقتها من الاتفاقات الموضعية خلال الحرب السورية، تأتي مذكرة ال بين روسيا وتركيا حول تثبيت خطوط السيطرة، ووقف إطلاق النار في إدلب، كاستراحة مؤقتة وتأخير زمني لأزمات متتالية ستعشيها إدلب، التي تمثّل بالنسبة لتركيا قنبلة شديدة الانفجار، لا يمكن التكهن بموعد انفجارها، أو حتى تلافي مخاطرها، الأمر الذي يجعل الاتفاق بالنسبة لتركيا فرصة يمكن أن تكون الأخيرة لتفكيك هذا الخطر، والبحث في سبل انهائه، فهل تنجح المهمة؟
خمس ساعات و40 دقيقة استمر اللقاء الروسي التركي في موسكو، والذي بدأ باجتماع مغلق بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان، قبل أن تنضم إليه وفود روسية وتركية عسكرية وأمنية، الأمر الذي نتج عنه وثيقة من ثلاثة بنود عريضة، يحتوي كل بند فيها على مجموعة كبيرة من التشابكات والإشكاليات والتداخلات، والتي لم يذكرها البيان النهائي لنص الاتفاق، الأمر الذي يؤكد أن النقاش خاض في أدق التفاصيل، وتناول سيناريوهات عديدة مستقبلية لطريقة التعاطي مع أية عقبة بشكل يضمن عدم الانزلاق مجدداً لمواجهة مباشرة بين الجيشين السوري والتركي.
الاتفاق الذي بدأ بالتأكيد على حرص البلدين الضامنين روسيا وتركيا على وحدة الأراضي السورية، وعلى بند واضح لمتابعة مكافحة الإرهاب، لم يأت على ذكر طريق حلب – دمشق (M5) الذي يسيطر عليه الجيش السوري، كما لم يذكر أو يشر إلى نقاط المراقبة التركية المحاصرة في المناطق التي سيطر عليها الجيش السوري، والتي ذكر الرئيس التركي للصحافيين أنها ستبقى في مكانها خلال عودته من موسكو.
مقابل ذلك، تضمن البيان بنداً واضحاً على فتح طريق M4 (حلب – اللاذقية) المغلق جزئياً في ريف إدلب، عن طريق تسيير دوريات روسية تركية مشتركة في الجزء المغلق، وتأمين تركيا الطريق بإقامة ممر آمن لا يحتوي على أية مجموعات مسلحة بعمق 6 كيلومترات على طرفي الطريق، ضمن جدول زمني واضح يحدد موعد تسيير الدوريات تمهيداً لفتح الطريق الاستراتيجي الذي يصل حلب، عاصمة الاقتصاد السوري، باللاذقية، الوجهة البحرية اللازمة لاستيراد المواد، وتصدير البضائع.
كذلك، أكد البيان وبشكل واضح أن خط سير الدوريات ينطلق من نقطة ترنبة غرب سراقب، وصولاً إلى عين الحور في ريف إدلب الغربي، وهي المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة، الأمر الذي أبعد تركيا عن منطقة سراقب بشكل نهائي، بعدما خسرت معركتها، وخسرت معها الحلم بموطئ قدم لها على نقطة تقطع طريقي حلب- دمشق وحلب اللاذقية معاً، لتبقى الآمال التركية معلقة على طريق واحد فقط.
إشكالية ميدانية
وضع التعهد التركي بفتح طريق M4 وتأمينه الفصائل المسلحة في إشكالية هامة، حيث تسبب هذا الاتفاق بخطر يواجه مناطق في جبل الزاوية تبعد أكثر من 6 كيلومترات عن الطريق وتسيطر عليها الفصائل المسلحة، والتي ستجد نفسها معزولة عن إدلب، ومجبرة على الانكفاء بين خطين، الأول على تماس مباشر مع الجيش السوري، والثاني هو الطريق الذي تشرف عليه روسيا وتركيا.
وأمام هذه الإشكالية، يبدو أن الفصائل المسلحة ستنكفئ إلى مناطق داخل إدلب، خلف طريق M4، وقد يتم تسليم هذه المناطق للجيش التركي بشكل مباشر، أو لفصائل “الجيش الوطني” ذات الطاعة المطلقة لأنقرة، وذلك لضمان عدم وقوع أية إشكالات مستقبلية قد تحبط آمال تركيا في التفرغ لأزمتها المستقبلية في إدلب.
كذلك، يقع على عاتق أنقرة إبعاد الفصائل المسلحة عن الطريق ضمن النطاق الآمن، الأمر الذي يتطلب محاولة فرض طوق داخلي على المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة في إدلب، سواء عن طريق انتشار قوات من الجيش التركي، أو نشر قوات من فصائل مضمونة بالنسبة لتركيا، خصوصاً أن هذه المنطقة تعتبر واحدة من أبرز المناطق التي تنتشر فيها الفصائل “المتشددة” بمختلف أسمائها وراياتها (جبهة النصرة، الاويغور، الأوزبك، الشيشان، بقايا داعش…) وجميعها غير مأمونة الجانب بالنسبة لأنقرة.
ويتطلب تطبيق هذا الطوق عملاً تركياً جاداً، خصوصاً أن هذا الاتفاق جاء بعد نكسة تركية كبيرة بعد المواجهة المباشرة مع الجيش السوري من جهة، ورفض حلف “الناتو” مؤازرة تركيا في حربها من جهة أخرى، الأمر الذي أجبر إردوغان في النهاية على السفر إلى روسيا والموافقة على “خريطة الأمر الواقع”، وتحصيل ورقة “طريق M4” والإشراف عليه، بعد عدم وفاء تركيا بالتزاماتها بموجب اتفاق “سوتشي” الموقع في العام 2018 والذي كان يقضي بأن تقوم تركيا بمحاربة الإرهاب وتفكيك الجماعات المسلحة، وفتح طريقي M4 وM5 وهو ما لم تقم به، ما تسبب بالانزلاق إلى الحرب الأخيرة.
وامام هذه المعطيات وتزايد الضغوط الداخلية في تركيا على “حزب العدالة والتنمية” من قبل الأحزاب التركية المعارضة، وحتى الشارع التركي الذي مسّته دماء الجنود الأتراك بشكل مباشر، يدرك إردوغان جيداً أهمية الوفاء بالتزاماته هذه المرة، وتأمين وفتح الطريق وفق الجدول الزمني المتفق عليه، الأمر الذي سيوفّر له وقتاً أطول لمعالجة أزمة إدلب.
قنبلة إدلب
تمثّل إدلب بالنسبة لتركيا قنبلة قابلة للانفجار، بسبب انتشار الفصائل “الجهادية”، سواء السورية منها أو حتى متعددة الجنسيات، والتي تدرك أنقرة أنها غير مأمونة الجانب على الرغم من العلاقات الطيبة التي تربط تركيا بها.
وخلال الفترة الماضية، ومع تقدم قوات الجيش السوري في ريف إدلب، ارتفعت مؤشرات خطر انزلاق هذه الفصائل إلى الجانب الآخر من الحدود مع تركيا، الأمر الذي يعني بالنسبة لتركيا مساً مباشراً بأمنها الداخلي، وتجذيراً لـ “إرهاب” قد يرتد عليها في أية لحظة.
ولتلافي هذا “الكابوس” قامت تركيا ببناء جدار عازل على طول الشريط الحدودي مع سوريا، كما ضاعفت من عدد ومراكز حرس الحدود، وأبقت على خطوط تواصلها مع الفصائل “الجهادية”، ورفعت من مستوى التنسيق معها خلال معاركها مع الجيش السوري في سراقب ومحيطها، إلا أنه ورغم ذلك، يبقى خطر انزلاق هذه المجموعات قائماً، خصوصاً أن قسماً منها يرتبط بشكل مباشر بتنظيم “القاعدة” الذي يمثّل “الجهاد” العابر للحدود، كما تضم مجموعات أخرى فصائل “جهادية” من جنسيات مختلفة يمثل القتال بالنسبة إليها سبيل عيشها الوحيد.
اقرأ المزيد في قسم الاخبار
وتواجه تركيا في هذا السياق تحدياً مباشراً يظهر قدرتها على تفكيك الجماعات المتشددة، والتي أقرّت تركيا صراحة بأنها “إرهابية”، بشتى السبل الممكنة، سواء عن طريق نقل بعض هذه الجماعات إلى أرض “جهاد” جديدة، توفرها ليبيا في الوقت الحالي، والتي تعمل تركيا على حشد قواتها، ومقاتلين سوريين فيها، أو إلى مناطق أخرى، جميعها بعيدة عن الحدود التركية، أو عن طريق دمج الفصائل ضمن الهيكل الذي أسسته تركيا للفصائل المسلحة في سوريا والذي أطلقت عليه “الجيش الوطني”، خصوصاً مع رفض روسيا، بشكل قاطع قبول الفصائل “الجهادية” على أنها مكوّن موجود من مكونات الشعب السوري، أو قبول هذه الفصائل بعد تغيير راياتها، كما حصل مع “جبهة النصرة” بعد إعلان فك ارتباطها بتنظيم “القاعدة”، وتغيير اسمها إلى “هيئة تحرير الشام”.
ولعل أكبر المخاطر التي تواجهها أنقرة في هذا الملف يتمثل بإمكانية وقوع مواجهة مباشرة بين فصائل “جهادية” ومسلحين تابعين لتركيا، الأمر الذي قد يرغمها على خوض حرب لا تريدها مع هذه الفصائل، ما قد ينجم عنه تسرباً مقصوداً لهذه الجماعات إلى الداخل التركي لضرب أمنها الداخلي.
الاتفاق الذي جرى في روسيا، رغم عدم تسرب جميع نقاطه، والاكتفاء بالإعلان عن نقاطه العريضة، يمثّل بمجمله نجاحاً للسياسة الروسية في المنطقة، وتحجيماً مباشراً لتركيا وحلمها العثماني، إلا أنه وفي الوقت نفسه يمنح إردوغان متنفساً يمكن من خلاله إنقاذ نفسه، الأمر الذي من شأنه أن يضمن عدم دخول تركيا في دوامة الفوضى، وهي دوامة لا تريدها روسيا في بلاد قريبة منها، ولا تريدها أوروبا أيضاً. رغم ذلك، لا تملك تركيا هذه المرة ميزة الوقت الفضفاض كما الاتفاق السابق، خصوصاً أن اتفاقها هذا جاء بعد انكسار ميداني مباشر للجيش التركي والفصائل التي يدعمها أمام الجيش السوري وحلفائه في معركة سراقب.
علاء حلبي