من أنقرة إلى “COVID -19”.. دمشق ومعركة الوجود
أحمد الدرزي
عندما بدأت الحرب على سوريا بتاريخ 18 آذار/مارس، لم تكن ملامحها الأولية واضحة، وما كان لأحد أن يتنبأ بمآلاتها. ومع تطوّر أحداثها وظهور اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين على مسرح الأحداث، بدأت تتكشّف دوافعها الحقيقيّة ودور كلّ منهم، لتتحدد بشكل أكثر وضوحاً بعد التدخل الروسي المباشر المساند لدمشق وطهران في نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2015.
وقد اتضح أنَّ دور كل من واشنطن وتل أبيب وأنقرة هو الأهم بين كل اللاعبين، وخصوصاً بعد الانحسار الواضح للدور الخليجي المتمثّل بكلٍّ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، بعد تورّط الرياض وأبو ظبي في الحرب على اليمن.
استطاعت دمشق، اعتماداً على موسكو وطهران، تحقيق مجموعة من الإنجازات الميدانية على مدى السّنوات الخمس، أتاحت لها استعادة السيطرة على أكثر من 70% من مجمل الأراضي السورية المحتلة. وقد أدركت أنَّ التهديدات المتبقية متفاوتة من حيث الشدة.
وعلى الرغم من الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على المواقع العسكرية للجيش السوري وحلفائه، فإن طبيعة هذه الهجمات لا تحمل تهديدات وجودية، بقدر ما تعبر عن هواجس إسرائيلية مُعرقلة للتحول الاستراتيجي المهدد لها ولوجودها، وخصوصاً بعد تحقيق التواصل بين العراق وسوريا.
كما أن التهديد الأميركي واحتلاله مناطق التنف وشمال شرق سوريا، لا يمكن أن يحمل صفة الديمومة، بفعل عوامل أميركية داخلية وخارجية مزعزعة لإمكانية استمرارها في العراق وسوريا.
وتجلّى طموح أنقرة لاحتلال سوريا بأكملها تهديداً وجودياً حقيقياً، بعد أن استطاع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان احتلال مناطق واسعة من الشمال السوري.
ليس الواقع السوري بأحسن أحواله، رغم كلّ إنجازات الأعوام السابقة، بفعل عوامل متآزرة مع بعضها البعض أدت دورها في إنهاك الدولة السورية، متجسدةً بالعقوبات الاقتصادية والسياسية، وتدمير الاقتصاد السوري والبنية التحتية، والتهجير، وتوقّف العجلة الاقتصادية، وتقلّص الطبقة المتوسطة، وتجاوز نسبة الفقر بين السكان المتبقين نسبة 83%، إضافة إلى البيروقراطية شديدة التعقيد والمركزية، مع تجذر الفساد الإداري والمالي.
مع نهايات العام 2019، بدأت أخبار الإصابات بفيروس COVID 19 في مدينة ووهان الصينية تنتشر، ولَم يُقِم العالم آنذاك وزناً لما يحدث، وكأن الأمر فرصة لإنهاك الصين، ولكن بدأت الحالات تنتشر في أكثر من بلد في العالم، مع ظهور العجز في العديد من دول الاقتصاديات الكبرى في احتواء تفشي الجائحة، وتحوله إلى ظاهرة عالمية مُهددة لقوى دولية عظمى، من مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.
ومع وصوله إلى دول الجوار، في كل من العراق ولبنان وتركيا، أدركت دمشق أن العقوبات الدولية أدت دوراً إيجابياً في تأخير وصوله إليها، وأن انتشاره فيها سيشكل كارثة على الوجود السوري ككل في الظروف الحالية، وخصوصاً أن الإنهاك في الدولة السورية وصل إلى مستوى قابل للكسر، مترافقاً مع ضعف اقتصادي لحلفاء دمشق، أي طهران وموسكو، بسبب العقوبات الاقتصادية، والحصار الشديد، واستنزاف مواردهم المالية، ما دفع الحكومة السورية، ولأول مرة، إلى الإسراع في وضع سياسات جديدة، في سباق مع الزمن، لمنع وصوله إلى الداخل السوري.
وقد لجأت دمشق إلى مجموعة من الخطوات التأهيلية للمجتمع السوري غير المتعاون ضمن سياسات متدرجة، بدأت بتفعيل نظام الرصد الوبائي في وزارة الصحة السورية، والضخّ الإعلامي لهول مخاطر انتشار الفيروس، ومراقبة القادمين إلى سوريا، وصولاً إلى قطع الحدود البرية بين لبنان وسوريا، وتأجيل العمل العسكري في إدلب، والتوجّه إلى قطع التواصل بين المدن السورية، ومنع وسائل النقل العامة بين المدن والقرى، وصولاً إلى فرض حظر تجول ليلي داخل المدن بين الساعة السادسة مساءً والسادسة صباحاً.
وقد تصل الإجراءات خلال أيام إلى فرض حظر تجوّل كامل، بفعل غياب تعاون شريحة لا يستهان بها من السكان، بسبب عوامل اقتصادية وثقافية مختلفة، ولا تُغفل فيها الفجوة الكبيرة بين السكان وإدارات الدولة بفعل سياسات سلبية سابقة.
كلّ هذه السياسات المتّبعة تؤكد بشكل واضح أن دمشق أدركت أن طبيعة تهديدات هذه الجائحة تحمل تهديدات وجودية، خشية انهيار محتمل لبنى الدولة السورية، إذا ما عجزت عن منع وصول الفيروس إلى الداخل السوري، وانهيار ما تبقى من النظام الصحي، الذي خرج عدد كبير من المستشفيات فيه عن الخدمة سابقاً، وانخفاض عدد أسـرّة العناية المشددة على مستوى مناطق سيطرة الحكومة السورية، إضافة إلى استنزاف ما تبقى من موارد مالية ضئيلة.
أصبح واضحاً لدمشق أن ما عجزت عنه التنظيمات الإسلامية المسلّحة التي تدعمها أنقرة، قد يحققه تفشي الجائحة الأخطر، إذا ما عجزت عن احتوائه، وهي تدرك أن معركتها معه لن تنتهي بتاريخ الثاني من شهر نيسان/أبريل القادم، كما حددته كموعد، ذلك أن الأمر مرتبط بانحساره وزواله في كل من لبنان وتركيا والعراق وإيران كمستوى أولي مباشر، وعلى المستوى العالمي كمستوى ثانٍ، إلى حين اكتشاف الدواء واللقاح المناسبين، ما يقتضي مستوى عالياً من الوعي السكاني غير متوفر بالشكل الكافي.
لا خيار أمام دمشق سوى خوض معركتها الأخيرة لمنع الانهيار، حتى لو اضطرها الأمر إلى اتخاذ أقسى الإجراءات للحفاظ على كيانية الدولة السورية، فهل ستنجح في ذلك كما نجحت جزئياً في تقليص مخاطر التهديد الوجودي لمشروع الدولة العثمانية الجديدة؟
ذلك ما ينتظره السوريون.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
الميادين