سوريا.. مرحلة جديدة وتطورات كبيرة قادمة
ما لم تكن السياسة كافية لفعله، ها هو فيروس كورونا (كوفيد ـ 19)، يوفّر لأهل السياسة الذريعة والحافز لفعله. النموذج هو الإتصال الذي أجراه ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد بالرئيس السوري بشار الأسد، الأسبوع الماضي، وأبلغه فيه أن سوريا “البلد العربي الشقيق لن يكون وحده في هذه الظروف الدقيقة والحرجة”.
ليس الإتصال الإماراتي ـ السوري، على أعلى مستوى سياسي بين البلدين هو الحدث. الإعلان الرسمي الصادر من أبو ظبي، سواء عبر تغريدة محمد بن زايد أو وكالة الأنباء الإماراتية، هو الحدث. أي أن الشكل تفوق هذه المرة على المضمون الدافىء منذ فترة.
“دبلوماسية كورونا”. توصيف يقدّمه أحد المتابعين اللبنانيين عن قرب لملف العلاقة السورية ـ الإماراتية. هذا التطور “له سياقه السياسي والزمني وعمره أكثر من سنة ونصف تقريباً، وكان قد شهد سلسلة من المحطات ـ المبادرات، يسجل فيها للجانب الإماراتي أنه كان في موقع المبادر أولاً. الأدق أن الإنفتاح كان منسقاً من جانب الإمارات ومصر، بينما كانت المملكة العربية السعودية تقف في المشهد الخلفي، وتحديدا في موقع التحفيز لكل من أبو ظبي والقاهرة، في إنتظار الضوء الأخضر الأميركي”.
قرّر الإماراتيون رفع منسوب تواصلهم مع السوريين. أوفد محمد بن زايد نائب رئيس المخابرات الإماراتية محمد بن حماد الشامسي في تموز/يوليو 2018، إلى دمشق وإجتمع برئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي المملوك الذي كان قد زار العاصمة السعودية في وقت سابق، وإجتمع بولي العهد السعودي محمد بن سلمان. مسار إشتغل عليه أيضاً رئيس جهاز المخابرات العامة في سوريا اللواء حسام لوقا الذي زار العاصمة السعودية، العام الماضي، في إطار تبادل الرسائل بين قيادتي البلدين.
هذا المسار الدافىء بين الرياض وأبو ظبي من جهة ودمشق من جهة ثانية، إستكمله المصريون لكن بحماسة سياسية أكبر. ثمة تواصل مفتوح بين القيادتين المصرية والسورية منذ حوالي خمس سنوات. القنوات الأمنية بين الجانبين أصلا بقيت مفتوحة، ولم تقفل السفارة المصرية في دمشق أبوابها على عكس الكثير من السفارات العربية، وتولى القنصل المصري طلال الفضلي ثم القنصل محمد ثروت إدارة السفارة في العاصمة السورية وملفات العلاقات الثنائية بين البلدين.
أراد السوريون منذ نهاية العام 2015، تعميم النموذج المصري وهم أبلغوا العديد من الوسطاء اللبنانيين والعرب والأجانب أن أية مبادرة على المسرح السوري (الإفراج عن رهائن أو كشف مصير بعضهم أو تسليم لوائح مجموعات إرهابية وغيرها) لن يكون مجانيا، بل سيكون مرهوناً بالتواصل الرسمي وإعادة البعثات الدبلوماسية إلى دمشق.
كان جلياً أن المسار الإماراتي ـ السوري يتطور بسرعة، وهو الأمر الذي يؤكد وجود هوامش لدى محمد بن زايد تجعله يخطو خطوات قد لا تكون مفهومة سياسياً أحياناً، خصوصاً إذا تم وضعها ضمن سياق الحسابات الأميركية في المنطقة. هذه الهوامش تضيق أحياناً وتتسع في حين آخر. الدليل أنه بعد حوالي السنة من إعادة فتح السفارة الإماراتية في دمشق، جاء الإحتفال بالعيد الوطني الإماراتي في كانون الأول/ديسمبر 2019، تعبيراً عن مناخ جديد عبّرت عنه الكلمة التي ألقاها القائم بالأعمال الاماراتي عبد الحكيم إبراهيم النعيمي ولا سيما وصفه القيادة السورية بـ”القيادة الحكيمة”.
في هذا المناخ، كان رئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي المملوك قد زار العاصمة المصرية (نهاية 2018) وأجرى محادثات مع نظيره المصري عباس كامل الذي زار العاصمة السورية في العام 2019. زيارتان متبادلتان لمسؤولين أمنيين ـ سياسيين كبيرين كان يفترض تتويجهما إما بزيارة يقوم بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى القاهرة أو بزيارة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة السورية، غير أن إشارة أميركية ما أدت إلى وقف هذا المسار الإيجابي في الشهور الأخيرة، والدليل أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية كانت قد أصبحت جزءاً من هذا المناخ الإيجابي المتبادل، وهو الأمر الذي ترجمه أمين عام الجامعة أحمد أبو الغيط بتفاعله في الإجتماعات الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بطريقة إيجابية مع الوفد السوري برئاسة وليد المعلم.
أبلغ الأميركيون مطلع هذه السنة العديد من العواصم العربية بضرورة وقف مسار التطبيع مع دمشق. ترافق ذلك مع توتر العلاقات الأميركية الإيرانية غداة إغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري اللواء قاسم سليماني. “فرملت” واشنطن هذه الإندفاعة وسحبت موضوع عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية من التداول، بعد أن دفعت القيادة الفلسطينية إلى وضعه على جدول الأعمال، ولم يستكمل المصريون والسوريون مسارهم الدافىء الذي كان يمكن أن يؤدي إلى قمة مصرية ـ سورية في دمشق أو في القاهرة، وهو مسار قابل للتحريك إذا إستمر المسار الإيجابي الذي دشّنه إتصال محمد بن زايد ببشار الأسد. أكثر من ذلك، هذا المسار الإماراتي كان قد ترافق مع مبادرة أخذتها أبو ظبي على عاتقها بإرسالها وفدا أمنيا إلى طهران وإبداء إستعدادها للإنسحاب من حرب اليمن، غير أن الضغط السعودي ـ الأميركي أدى إلى فرملة هذه الإندفاعة.
يبقى السؤال متصلاً بالهوامش التي يستفيد منها الإماراتيون في هذه اللحظة الإقليمية.
أولا، ثمة عنوان كبير مشترك بين دمشق وأبو ظبي والقاهرة (ومعهم الرياض حتماً) وهو العداوة السياسية المشتركة ليس مع تركيا بشخص رئيسها رجب طيب أردوغان، بقدر ماهي عداوة للمشروع “الأخواني” في كل المنطقة، وهذه نقطة مشتركة ساعدت في بناء بعض الجسور وتقريب المواقف. ويسري ذلك أيضا على تبني القاهرة ودمشق (ولو بدرجة أقل) لموقف دول الخليج ضد قطر التي شكلت رأس حربة للمشروع “الأخواني”، قبل أن تنتقل الراية إلى الأتراك في مرحلة لاحقة.
ثانياً، ثمة رهان سعودي ـ إماراتي أنه كلما فتح العرب أبوابهم لدمشق، كلما سهلوا لها فرصة أن تتمايز وتوسع هوامشها السياسية مع الإيرانيين، خصوصا وأن القيادة السورية لن تكون قادرة وحدها على خوض غمار معركة إعادة إعمار سوريا في المستقبل. ويحاول الإماراتيون أن يستفيدوا أيضاً من بعض التناقضات من دون إستفزاز الإيرانيين، بدليل أنهم لا يفوتون مناسبة لإطلاق مبادرات إزاء طهران، مثل إرسال مساعدات ومعدات في مواجهة كورونا أو إتصال وزير خارجيتهم بوزير الخارجية الإيراني لتطمين القيادة الإيرانية بعدما أعطيت المناورة الأميركية ـ الإماراتية في الأيام الأخيرة أبعاداً سياسية ضد إيران.
ثالثا، ثمة مناخ من التفلت السياسي والدبلوماسي سنشهد تعبيرات له في العديد من الملفات الإقليمية، وهو ناتج عن مناخ الفوضى والإرتباك الذي يسود العلاقات الدولية، بسبب فيروس كورونا. هذا التفلت يستفيد من “رخاوة” القبضة الأميركية من جهة وإستعداد بعض العواصم لتوسيع هوامشها من جهة ثانية. زدْ على ذلك أن الروس والصينيين قدموا نموذجا في التعامل مع كورونا سيترك بصمته على مجمل العلاقات الدولية.
المصدر: 180post