سورية، كورونا، النفط… ومعركة إعادة التاريخ.
سمير الفزاع
يصعب الإدعاء بأن فايروس “كورونا” ناجم عن مؤامرة خفيّة، ولكن ما سأحاول إثباته في السطور القادمة بأن هناك من أراد استخدام ظهور وانتشار هذا الفايروس في الصين تحديداً ولاحقاً في ايران، كأداة قتل وترويع واخضاع، وفرصة لإعادة تسيّده موازين القوى الدولية والإقليمية.
على عجل، ومع بداية اجتياح “كورونا” الشامل لاقليم “ووهان” الصيني، ظهر في واشنطن من أراد استغلال هذا الوباء في حربه “الوجودية” مع التهديدين الصيني والروسي، فاستعيدت أدبيات واستراتيجيات الحرب ضد الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقيّة عموماً، ليوصف الوباء: بـ”الفايروس الصيني”، والعقاب الالهي بسبب المعاملة الالغائيّة للمسلمين الايغور، والتجارب البيولوجية-الكيمائيّة التي خرجت عن السيطرة، النظام الغذائي الصيني… . كما أسلفت، كان هناك من يرى المشهد بطريقة مغايرة تماماً، وبعيداً عن هذه الحرب الدعائيّة السوداء: الصين، المنخرطة في حرب تجاريّة واسعة مع أمريكا، والمنافس الأكبر لهيمنتها الإقتصاديّة على العالم، والساعية إلى تعميم نموذجها الحضاري باستثمارات خارجية هائلة، وبناء سلسلة ضخمة من المشاريع العابرة للحدود… تعيش حالة مرعبة من الخمود الإقتصادي-الاجتماعي غير المسبوقة، بسبب اعتمادها على سياسة العزل والحجر الذاتي في عموم الصين، فتوقفت عجلة الاقتصاد على نحو كامل أو كادت… العالم بأسره تقريباً، ترك الصين لتواجه مصيرها الأسود المنتظر. روسيا، المنافس العسكري، والجيوسياسي-التاريخي، تعاني بسبب العقوبات الأمريكيّة والغربية عموماً، وشريكها الإقتصادي-السياسي الأكبر، الصين، دخلت في طور من الكمون الدولي الشامل بسبب صراعها من أجل البقاء، وانجازها العسكريّ-الجيوسياسي الدوليّ الأهم والأخطر في سوريّة، على المحك، بسبب خداع ونوايا اردوغان، وتحشيد أدوات الغزو الارهابي لعمل مرتقب، والتربص الامريكي والغربي… لجعل معركة إدلب نقطة تحول في المواجهة الدولية الأسخن.
ويمكن “افتراض” تقدير الموقف الأمريكي على النحو التالي:
1-الصين دخلت في معركة مع “كورونا” لن تتعافى منها لسنوات، والأمر ذاته ينطبق على ايران، البلد الثاني الذي انتشر فيه الفايروس بقوة بعد الصين.
2-روسيا، المعتمدة على عوائد انتاجها النفطي-الغازي في بناء موازنتها بشكل كبير، ستدخل في طور إنهيار اقتصادي شامل خلال عام بسبب اغلاق اسواق أكبر شركائها، الصين، ولن تكون قادرة على الدخول في مواجهة عسكريّة كبيرة وممتدة مع واشنطن وانقرة ولندن وتل ابيب… وأدواتهم الإرهابيّة في ادلب السوريّة، خوفاً من تكرار النموذج الأفغاني مجدداً، خصوصاً وأن هناك من لوح بإغلاق مضيقي البسفور والدردنيل اذا ما تعرض الأمن القومي التركي للخطر.
3-دخول فصل الربيع يمكن استغلاله في تخفيف امدادات الطاقة الروسيّة إلى اوروبا، خصوصاً وأن هذا الشتاء كان الأكثر دفئاً منذ عقود.
4-يمكن تعويض أي نقص في امدادات الطاقة العالمية عبر ضخ محميات الخليج وغيرها المزيد من النفط.
5-على المستوى الاقليمي، ستكون ايران والعراق الأكثر تضرراً، ما يسهل اعادة السيطرة عليهما بشكل أو بآخر.
6-مع انفراط عقد بريكس وشنغهاي بتدهور اوضاع الحامل الدولي لهما، روسيا والصين، ستنهار تلقائيّاً المشاريع المنافسة للهيمنة الامريكية والغربية، مثل أوراسيا ومشروع الطريق والحزام… لتتفرد واشنطن مجدداً برئاسة مجلس إدارة العالم.
7-بعد تفرد واشنطن بإدارة العالم، ستعمل على تنفيذ مشاريعها الخاصة: الشرق الأوسط الجديد وصفقة القرن، لتصفية ما تبقى من القضيّة الفلسطينية وإدماج الكيان الصهيوني ضمن نسيج المنطقة، وغزو فنزويلا لاستعادة كامل حديقتها الخلفية اللاتينية مجددا… .
8-مع الغرق الصيني المُنتظر في “طوفان كورونا” وعدم قدرتها على الاستفادة من انخفاض اسعار الطاقة، سيكون من السهل التخلص من “عقدة” كيسنجر وامريكا إبان الصراع المفتوح مع الاتحاد السوفيتي والصين ثمانينيات العقد الماضي: إذا ارتفعت اسعار النفط استفادت موسكو، وإذا انخفضت استفادت بكين.
هذه الإستراتيجية ليست من نسج الخيال، لقد طبقتها واشنطن وأدواتها حرفيّاً في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، عندما خُفِضَت اسعار النفط من 37 دولاراً العام 1981 الى 7 دولارات في العام 1986، رداً على موسكو ودورها في معارك لبنان وتزويدها سورية بمنظومات حديثة للدفاع الجوي، ولإنهاك الإتحاد السوفيتي الغارق أصلاً في حرب افغانستان الاستنزافيّة… .
وأمّا كيفية الردّ الروسي-الصيني-السوري على هذا الهجوم، فيمكن تلخيصه على النحو التالي:
1-استخدمت السلطات الصينية كامل قدراتها الإداريّة والتكنولوجية للحد من انتشار الفايروس، ومن ثم محاصرته تمهيداً للقضاء عليه، وقد حققت نجاحاً باهراً في هذا المجال… ما سمح لها باستعادة دورتها الإقتصاديّة بنسبة تلامس 93% من قدراتها الانتاجيّة. ولم تكتفي بذلك فقط، بل أرسلت مساعدات طبية وتقنية وخبراء لأكثر من 40 بلداً حول العالم لمساعدتهم في التغلب على هذه الجائحة. وهذه العودة السريعة للصين الى الساحة الدولية سياسيّاً-اقتصاديّاً كانت بمثابة الصدمة والكابوس الأكثر سوداويّة لأمريكا وشركائها، ويمكن تلمس آثار هذه الصدمة في التصريحات الهستيريّة للادارة الأمريكيّة.
2-روسيا، المُتهيّئة والقادرة على الصمود لسنوات في مواجهة مفتوحة مع الغرب بالاعتماد على طاقاتها الذاتية، وعلاقاتها مع حلفاء كبار كالصين المتعافية والهند وباكستان… وروابط الضرورة التي تميل الى مصلحتها في التعامل مع آخرين، كالاتحاد الأوروبي الذي يستورد منها 35% تقريباً من امدادات طاقته، تعاملت مع الوباء كحرب بيولوجيّة بكل ما للكلمة من معنى، فارسلت فرقاً عسكريّة الى ايطاليا وصربيا وغيرهما، لتستقصي وتدرس وتحلل وتقاوم… .
3-تعاملت موسكو مع الخفض الكبير لأسعار النفط كجزء من المعركة الدائرة تحت غبار “كورونا”، فلم تتسرع للوصول الى تفاهم جديد، ورفضت الإملاءات والإبتزاز الأمريكي-السعودي، وحولت سلاح اسعار النفط إلى:
*معول ضخم يهدم دور محميات النفط في جزيرة العرب بدعم المشاريع الصهيو-أمريكيّة في المنطقة والعالم، وخصوصاً في سوريّة واليمن وفلسطين والعراق… .
*سحق شركات النفط الصخري الأمريكيّة التي كانت تنتج النفط من خارج تفاهمات “أوبك” بلا رقيب أو حسيب، وهزّ ترامب الذي سُيمنى بخسارة مدوية في الانتخابات القادمة اذا لم يصل الى تفاهم مع روسيا وشركائها حول القضايا الإقليمية والدولية المُلحة.
*محاولة إجبار واشنطن وأدواتها في الاقليم والعالم على الجلوس الى طاولة المفاوضات، وإجبارهم على التواضع بعد التعرف الى احجامهم الحقيقيّة في النظام الدولي الجديد.
*تكريس موسكو كأهم ضابط إيقاع لسوق الطاقة الدولي من جهة، وقدرته على توجيه أقسى ضربة للأمن القومي الأمريكي منذ عقود، عندما أثبتت قدرتها على تحويل أمريكا من أحد أكبر مصدري النفط في العالم إلى أحد أكبر مستورديه، بعدما أخمد قطاع النفط الصخري باسره وادخله طور الإنهيار المحتم والسريع.
*تقديم خدمة العمر، وردّ الجميل مضاعف للصين، من خلال مساعدتها على استعادة تعافيها بخفض اسعار النفط الضروري لاقلاعها مجدداً… ومن المفيد الإشارة هنا بأن أكبر مستورد للنفط السعودي هي الصين!!!.
4-تحويل معركة إدلب الى مناسبة لإخضاع أردوغان وحلفائه، وتعزيز موقف سورية سياسياَ وعسكريّاً… حيث نُقلت الى سورية وشرق المتوسط، الإمدادات العسكريّة وأهم قطع اسطول البحر الأسود الذي توعده سادة اردوغان عبره، بإغلاق مضيقي البسفور والدردنيل لحصاره… ليكون حاضراً في مواجهة تطورات معركة ادلب، واقتراب القطع البحريّة الأمريكية من مسرح العلميات الاقليمي… وأسندت الجرأة السوريّة الكبيرة على مواجهة هذا الهجوم الغربي عبر الجيش التركي بكل قوة، وفتحت باباً للدعم العسكري-السياسي-الاقتصادي يفوق سابقه عندما اسقطت طائرات العدو الصهيوني طائرة الاستطلاع الروسية منتصف ايلول 2018.
يقول ماركس: إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة. وما نراه اليوم من محاولة لتكرار نموذج تاريخي دون إدراك لحجم وعمق التطورات التاريخية التي طرأت على العالم، يؤكد بأن المشهد فيه من هذا ومن ذاك، ويكفي أن ننظر الى ترامب ومحمد بن سلمان وأخيه وزير النفط عبد العزيز بن سلمان لنرى هول المهزلة، وعبثيّة المأساة. هي معركة أخرى كبرى ربحها محور جديد، وسيكون لها تداعيات هامّة على شكل وبنيّة النظام الدولي المُتشكل. ولكن، يبقى السؤال المركزي مفتوحاً، كيف سيصل العالم الى النظام الدولي الجديد، وصورة الاستقرار في لحظة الاستقرار… أبحرب عالمية أخرى، أم بمعارك محدودة، أم بتفاهمات دولية تراعي موازين القوى الجديدة… حتى اللحظة، هم يناورون في خانة المعارك المحدودة ويخسرون معظمها، لكنهم سيضطرون في لحظة ما إلى خوض معركتهم الكبرى أو القبول بالهزيمة الكبرى.