الثلاثاء , نوفمبر 26 2024

حظر تجول.. وأبو النور “سكر محلي محطوط على كريما”

حظر تجول.. وأبو النور “سكر محلي محطوط على كريما”

السادسة والربع مساءً بتوقيت حظر التجول:
يضع أبو النور (ناطور بناية) كرسيه على كعب بناء برجي بزاوية رؤية تسمح له رصد مدخل الحارة كاملاً.. يزيح بسبابته الكمامة الخضراء عن فمه إلى مستوى الذقن تقريباً يخرج من جيبه باكيت الحمراء الطويلة يستل بكل كبرياء سيجارة ويشعلها على طريقة جبل شيخ الجبل (شخصية درامية).. يتلفت يمنة ويسرة بكل رشاقة..

الشارع فارغ إلا من بضع قطط سمان يتجولن بين الحاويات المترفة ببقايا الطعام.. وكلبة هزيلة تتدلى أثدائها بانسيابية.. يبدو أنها تسللت من الأحياء المجاورة المتهدمة بفعل المعارك إبان سنوات الحرب الغابرة.. الاكيد أن ثمة جِراءٌ بانتظارها في مكان ما وسط ذلك الخراب.

سمحت أجواء الحظر لأبي النور بأن يوسع صلاحياته لتشمل جميع الأبنية المجاورة للبناء الذي يتولى خدمته.. تغيرت بعض مهامه منذ بداية تطبيق حظر التجول.. يستطيع أبو النور مثلاً أن يسأل أي عابر للحظر حتى لو كان يريد أن ينتقل من بناء لآخر مجاور عن وجته وسببها.. ربما شيء واحد لن يتمكن أبو النور من فعله هو ان يعالج وضع أحدهم بسبب خرقه الحظر.. ربما يتمنى أن تأتيه اوامر عليا بمعالجة أوضاع الخارجين عن القانون سيكون في غاية الامتنان والغبطة.

يُنهي سيجارته ويعاود رفع الكمامة مستخدماً هذه المرة السبابة والابهام.. يقف ثم يعاود الجلوس بخفة.. يُنقل كرسيه الابيض إلى مكان اخر.. يجرب أن يجلس وسط الساحة.. زاوية رؤية غير مناسبة.. يختار مكان أفضل يدير ظهره إلى مدخل الحارة لتصبح كتلة الأبنية تحت ناظريه.. تعبر سيدة خط نظر أبو النور تومئ له بيدها كما لو أنها تستأذن.. أبو النور يبدي لباقة مع النساء يرفع يده التي يحمل بها “البيل الكشاف” معلناً السماح لها بالمرور.

لا شيء يخرق صمت الحي الدمشقي سوى أسراب السنونو الحائم على رائحة ربيع تخلف قليلاً عن موعده.. تلاوات قرآنية تتهادى من مآذن الجوامع.. يقطعها بغتةً صوت الآذان.. لا أحد سيتوجه صوب الجامع في الحارة المجاورة ربما هي المرة الاولى التي تتوقف فيها صلاة الجماعة منذ أن وطأ الاسلام بلاد الشام..

رويداً رويداً تلبس الجدران والأسطع السواد.. إضاءات خافتة من شبابيك الأبنية.. إنها فترة انقطاع التيار الكهرباء..
يستأنس ابو النور ببيله الكشاف يوجهه بكل الاتجهات يقف منتصباً واضعاً يده في جيبه.. يرصد حركة عند مدخل أحد الأبنية يقطع الشارع باتجاه مصدر الحركة.. يحصل أبو النور على علبة عصير من أحد السكان يعود إلى كرسيه وينزل كمامته بنفس السبابة ويرتشف رشفة من العصير ثم يضع العلبة على الارض ويشعل سجارة أخرى.. يرصد ثلاثة أطفال يتسللون تحت جنح الظلام إلى بناء مجاور.. ارجع يا عمو ممنوع.. ثم يسمح لهم بعد ان تاكد انهم عائدون إلى منزلهم..

اقرا المزيد في قسم الاخبار

أخيراً وجدتُ سبباً مناسباً لفتح حديث مع أبو النور.. احد السكان نسي أضواء سيارته مشتعلة.. لم أكن أعرف ان ابو النور انتبه لوجودي على الشرفة.. ما ان رفعت يدي حتى نهض واقبل باتحاهي.. يملك الرجل سرعة بديهة: “شايفها شايفها” يقصد السيارة.. سالته هل عليها رقم هاتف؟.. قال لا.. ثم ضرب على سطحها بقبضة يده فبدأ جهاز الانذار بالتزمير كرر العملية أكثر من مره.. ثم رفع راسه صوبي: “اذا كان صاحبها قريب بيسمع الصوت.. سالته هل تحتاج أي شيء..

ليرد علي بلهجته الريفية: “ودي سلامتك انت اذا تريد شي خبرني”.. ثم يلتفت إلى عمق الحارة من جهة اليمين يرصد أم تجر حقيبة سفر.. يتبعها طفلين.. يعبرون إلى الضفة الأخرى من الحي.. هي هي وين رايحين؟.. ليك ماشيين ولا كأنو في شي.. تختفي الام وولديها بين كتل الابنية الشاحبة.. كما يختفي أبو النور خلف البناء البرجي.

تداهم الحارة أضواء سيارة اطفاء يشق هديرها جدار الصمت .. رائحة الكلور بدأت تعبق في المكان.. ثمة روح أخرى تنبعث في الحارة تتعالى أصوات الشبان والفتيات من داخل زيهم البرتقالي الذي يجعلهم يشبهون سكان الفضاء.. يبدو انها حملة تعقيم.. تمتلء الشرفات بالناس يراقبون الوافدين الجدد.. يعود التيار الكهربائي.. تغادر فرقة التعقيم..

يظهر أبو النور من جديد كمامته الخضراء إلى فوق أنفه، يدفع بتثاقل برميل قمامة أزرق محمول على عربة حديدية بعجلتين صغيرتين وجهته هذه المرة الحاويات يكرر العملة بضع مرات، لا زالت كرسيه البيضاء مكانها عند كعب البناء البرجي، سيعود إليها حالما يفرغ من مهامه الاعتيادية، يزيح كمامته بذات السبابة يُخرج من جيبه باكيت الحمراء الطويلة يستل سيجارة يشعلها.. يتأهب لاستقبال ضيفيه الطارئين لتبدأ حفلة شاي على أنغام صرعة الموسم “سكر محلي محطوط على كريما” التي تشق عباب الحظر تصدح من عدة شقق في تلك الأبنية البرجية!

الاصلاحية