مصارعة ثيران بين تركيا و”النصرة”… الجولاني يحقق مكاسب
عبد الله سليمان علي
حسم أبو محمد الجولاني زعيم “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) قراره في ما يخصّ رؤيته لمصير منطقة خفض التصعيد في إدلب من جهة، ولطبيعة العلاقة التي تجمعه مع الجانب التركي وإمكان تدحرجها في اتجاهات مختلفة، من جهة ثانية.
قد يكون الاشتباك الأخير بين قوات الجيش التركي وعناصر “هيئة تحرير الشام” (أمس الأحد) على خلفية فضّ الاعتصام المتواصل على الطريق الدولي M4 منذ شهر ونصف الشهر تقريباً، وهو الأول من نوعه بهذا الشكل المباشر، خيرُ دليلٍ على طبيعة القرارات التي اتخذتها قيادة الهيئة بعد اجتماعات مكثفة عقدتها تباعاً طوال الأسابيع الماضية من أجل وضع ركائز استراتيجيتها الجديدة لمواجهة التطورات الجارية في الشمال السوري.
“لا دوريات روسية على طريق أم فور (M4) ولو فنيت هيئة تحرير الشام” بهذه العبارة الحاسمة والنهائية، يلخص لموقع 180 مصدر مطلع على مقررات هيئة تحرير الشام حقيقة الموقف الذي انتهى إليه اجتماع الجولاني مع أقطاب قياداته العسكرية والشرعية للتباحث حول الضغوط التي تمارسها أنقرة من أجل تنفيذ اتفاق موسكو بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان ولا سيما البند المتعلق بفتح الطريق الدولي الذي يصل بين محافظتي اللاذقية وحلب.
وقال المصدر أنه سمع العبارة السابقة مباشرة من قيادي كبير في هيئة تحرير الشام من دون تسميته.
وبخلاف ما يجري تداوله حول وجود انقسامات داخل هيئة تحرير الشام بخصوص الموقف من اتفاق موسكو، ذهب مصدر ثانٍ تحدث إلى موقع 180 إلى أن عودة أبي مالك التلي عن استقالته بعد اجتماع قصير مع أبي محمد الجولاني، من شأنها أن تبين مدى قدرة الأخير على امتصاص نقمة بعض قادته وعدم رضاهم عن بعض الإجراءات والقرارات التي يتخذها.
ويؤكد المصدر أن عودة التلّي تعني بشكل أو بآخر أن الخلافات الجوهرية في صفوف القيادات الأولى للهيئة قد أزيلت، وما بقي منها يمكن التعايش معه تحت سقف واحد.
ولم يستبعد المصدر أن يكون التلّي قد سمع من الجولاني كلاماً واضحاً لا يستطيع الأخير البوح به في العلن وأمام وسائل الإعلام بخصوص العلاقة مع تركيا ونظرته إلى الدور التركي ومستقبله في إدلب، وهي من النقاط الأساسية التي دفعت التلي إلى تقديم استقالته جراء موقفه المتشدد ضد أنقرة واتفاقاتها مع الجانب الروسي.
عودة التلّي تعني بشكل أو بآخر أن الخلافات الجوهرية في صفوف القيادات الأولى للهيئة قد أزيلت
وقد مثلت لحظة الاشتباك مع الجنود الأتراك نقطة بداية جديدة أراد الجولاني أن يكون لها دويّ ووقع خاصين من شأنهما أن يوصلا رسالته إلى الأطراف المعنية. وفي ثنايا هذه الرسالة ما يعكس طبيعة مواقفه التي اتخذها بعد فترة من التردد والارتباك اللذين طغيا على أدائه نتيجة تخوفه من الحضور التركي العسكري المباشر وعدم التأكد من انعكاساته على دور الهيئة ونفوذها. ويتلخص ذلك في أمرين: الأول أن هيئة تحرير الشام لم تثق ولا تثق ولا يمكن أن تثق بالجانب التركي وخاصة فيما يتعلق بالضمانات التي يحاول تقديمها من أن تنفيذ بند فتح طريق M4 سينعكس إيجاباً على بقية مناطق إدلب التي ستصبح بمنأى عن أي عملية عسكرية جديدة يقوم بها الجيش السوري وحلفائه.
والثاني أن الجولاني ودائرته الضيقة المحيطة به، يقرأون بند الدوريات المشتركة على الطريق الدولي ليس على أنها مجرد إجراءات روتينية لحماية العبور على الطريق تأميناً لمتطلبات التنقل والتجارة فحسب، بل ثمة قناعة لدى هؤلاء في أن الدوريات المشتركة هي بمثابة ورقة نعي ليس لهيئة تحرير الشام ودورها، بل “للمحرر” بكامله والمقصود هي مناطق إدلب التي ما زالت تحت سيطرة الفصائل المسلحة. وسبب ذلك أن اتفاق موسكو وضع المناطق الجبلية والوعرة الكائنة جنوب الاتستراد الدولي تحت الإشراف الروسي، بينما لم يبق تحت الاشراف التركي سوى المناطق السهلية التي لن يكون من الصعب اقتحامها في أية عملية عسكرية قادمة.
ورغم المخاطر المرتفعة التي تضمنها الاشتباك المباشر مع الجانب التركي، وما يمكن أن يفرضه على الهيئة من خيارات مفتوحة لا يمكن التكهن بطبيعتها الدموية في حال قرر التركي الذهاب نحو التصعيد، فإن صورة الاشتباك بحد ذاتها حققت للجولاني مكاسب عالية جداً قد تستحق أن يدفع لأجلها التعرض لبعض المخاطر.
وأهم هذه المكاسب “أن البندقية التركية تحولت جراء اشتباكات أمس من حليف ومخلص إلى عدو” كما قال لموقع 180 المصدر الأول السابق الذي يُعتبر من المقربين لقيادات كبيرة داخل هيئة تحرير الشام. وهذه العداوة ليست مع الهيئة ومقاتليها وحسب، بل هي مع “شعب المحرر” بكامله، وهو ما من شأنه أن ينسف الاستراتيجية التركية من جذورها وخاصة أنها كانت تقوم على أساس أن السكان في إدلب يرغبون بدخول قواتها وسيشكلون حاضنة قوية لها، وهو ما انقلب إلى الضد تقريباً نتيجة خطأ بسيط ارتكبته القوات التركية بلجوئها إلى خيار العنف لفض الاعتصام المسمى “اعتصام الكرامة” بحسب المصدر نفسه.
وقد أصدرت اللجنة المنسقة للاعتصام بياناً اتهمت فيه الجيش التركي بسفك دماء المعتصمين وانتهاك جميع المواثيق الدولية وحقوق الانسان وحرية التعبير عن الرأي، وطالبت الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بالتدخل ومحاسبة المسؤولين لما في هذه التصرفات من إساءة للجيش التركي وسمعته” حسب ما جاء في البيان.
وكانت قوات الجيش التركي حاولت صباح أمس الاحد إنهاء الاعتصام وإزالة جميع مظاهره من خيام وسواتر ترابية من أجل الوفاء بتنفيذ التزامها المتمثل في تسيير دوريات مشتركة مع الجانب الروسي على الطريق الدولي من نقطة ترنبة إلى نقطة عين الحور. غير أن التطورات سرعان ما انزلقت نحو الاشتباك المسلح حيث سقط أربعة قتلى من مقاتلي هيئة تحرير الشام جراء قصف موقعهم بطائرة تركية من دون طيار وذلك رداً على إطلاق الرصاص الحي على الجنود الأتراك ومهاجمة عربة تركية مدرعة بصاروخ حراري.
وأكدت مصادر ميدانية لموقع 180 أنه سقط جراء الاشتباكات عدد من القتلى في صفوف الجنود الأتراك وعدد آخر من الاصابات، وهو ما قد يؤكده أن المروحيات التركية سارعت إلى المكان من أجل عمليات الاجلاء ولكن من دون أن يصدر عن الجانب التركي ما ينفي أو يؤكد وقوع قتلى في صفوف جنوده.
أصبح اللعب على المكشوف، ولم تعد هيئة تحرير الشام تجد حاجة للتستر خلف أي فصيل آخر
وليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها دورية تركية لإطلاق النار رداً على محاولتها فض الاعتصام المستمر منذ شهر ونصف الشهر، إذ تكرر الأمر في الثالث عشر من الشهر الجاري، عندما تعرضت مركبة تركية لإطلاق صاروخين. وقد توجهت اصابع الاتهام في ذلك الحين إلى “حراس الدين” التي نفت مسؤوليتها عن الحادث.
غير أنه مع التطورات الأخيرة أصبح اللعب على المكشوف، ولم تعد هيئة تحرير الشام تجد حاجة للتستر خلف أي فصيل آخر أو وراء أي ستار تحرك شعبي، بل أصبحت تحمل راية الوقوف في وجه التوجهات التركية من دون اي حذر أو خوف.
وقد يعكس ذلك من بعض النواحي مدى إحساس الجولاني بالقوة بعد قيامه بإعادة هيكلة ألويته العسكرية وتسليمها لأشخاص مقربين منه، واطمئنانه إلى أن الحاضنة الشعبية فقدت إيمانها بعصا الساحر التركي وعادت لتقترب منه ومن توجهاته، ويعكس ذلك أخيراً قناعة الجولاني بأن الظروف الاقليمية والدولية ما زالت بعيدة جداً عن أي توافق من أجل محاربته والقضاء على إمارته، وبالتالي فإن أي انقلاب يقوده ضد إرادة أنقرة وسياساتها سيكون مجرد إشكال بين صديقين لدودين يمكن حله بصيغ عدة مختلفة، مع الاستعداد دائماً لاحتمال أن تنفلت الأمور وتجد الهيئة نفسها وجهاً لوجه أمام خيار الحرب ضد الجنود الأتراك.
180post