الأحد , نوفمبر 24 2024

كورونا: ما هي التغيرات الإيجابية التي طرأت على كوكب الأرض بسبب الوباء؟

كورونا: ما هي التغيرات الإيجابية التي طرأت على كوكب الأرض بسبب الوباء؟

طالما أرقتني المعضلة الأخلاقية المتعلقة بالتَبِعات التي يُخلّفها السفر جوا على البيئة، سواء باعتباري صحفية متخصصة في مجال السفر، أو بوصفي إنسانة تهتم بشدة بمستقبل كوكبنا.

لهذا السبب، قلصت عدد الرحلات التي أقوم بها، وأوليت اهتماما أكبر في عملي بتناول القصص التي تتعلق بقضايا الحفاظ على البيئة كلما أمكن ذلك. لكن المشكلة تمثلت في أنه كان من العسير التعرف على النتائج الإيجابية التي تمخضت عن اختيارات مثل هذه.

فالغموض الذي يكتنف نتائج من هذا القبيل، يتباين تماما مع ما هو واضح بالنسبة لنا، من أن بقاء البشر في منازلهم يصب في صالح كوكب الأرض، ما قد يدفع للقول إنه برغم عدم وجود أي فوائد للوباء الحالي، فإن ما ترتب عليه من حظر للتنقلات غير الضرورية وفرض إجراءات إغلاق كامل في بعض دول العالم، جعل بوسعنا رصد التغيرات الإيجابية، التي تطرأ على كوكبنا بفعل غياب سكانه عنه بوجه عام للمرة الأولى على الإطلاق، كما هو الحال الآن.

ومن خلال صور الأقمار الاصطناعية التي نشرتها وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية، رُصِدَ تراجع شهدته الصين خلال شهريْ يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط، في انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين، التي تنتج في الغالب عن استخدام الوقود الأحفوري. ونجم ذلك عن التباطؤ الاقتصادي الذي شهده هذا البلد، خلال فترة الحجر الصحي.

وتفيد نتائج استخلصها باحثون من مركز “أبحاث الطاقة والهواء النقي”، المتخصص في دراسة التَبِعات الصحية لتلوث الهواء، بأن انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، الناجم بدوره عن استخدام الوقود الأحفوري، تراجعت هي الأخرى، بنسبة 25 في المئة بسبب الإجراءات المُتخذة لاحتواء التفشي الوبائي لفيروس كورونا المستجد.

ولم يختلف الحال في إيطاليا، إذ كشفت بيانات مُستقاة من صور أقمار اصطناعية مماثلة، عن أن انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين تراجعت أيضا في شمالي البلاد، بل وبدت الممرات المائية في مدينة البندقية أكثر نقاء، بفعل التراجع الحاد في حركة القوارب السياحية.

وفي الهند، أدى حظر التجول الذي فُرِضَ في مختلف أنحاء البلاد في الثاني والعشرين من مارس/آذار، إلى أن يصل مستوى التلوث بسبب ثاني أكسيد النيتروجين إلى أدنى مستوياته خلال فصل الربيع على الإطلاق، وفقا لمركز “أبحاث الطاقة والهواء النقي”.

أما في أمريكا الشمالية، وهي إحدى أكثر البقاع التي تشكل مصدرا للتلوث في العالم، فستشهد تطورات مماثلة على الأرجح، بالتزامن مع بدء حالة انكماش اقتصادي واسعة النطاق في مختلف أنحائها.

لا يعني ذلك – بطبيعة الحال – أن محاربة الانبعاثات الغازية المُسببة لظاهرة الاحتباس الحراري تستلزم أن يواجه العالم أزمة صحية حادة كتلك التي يمر بها الآن. لكن ما يحدث حاليا، يجب أن يمنحنا سببا للتفكير مليا في تأثير الأنشطة البشرية – بما في ذلك التنقل والسفر والترحال – على طبيعة الوضع على سطح كوكبنا.

وأدى فرض قيود على السفر والتنقلات غير الضرورية، إلى أن تُبقي شركات الطيران طائراتها على الأرض، ما أفضى إلى أن تقلص هذه الشركات عدد رحلاتها الجوية بشكل حاد، أو تُوقِفُها بشكل كامل.

ورغم أن البيانات التي تكشف التأثيرات التي خلّفها تقليص حركة الطيران على البيئة، لم تُنشر بعد، فإننا ندرك بالفعل أن ذلك أحدث أثرا كبيرا على الأرجح. ولعل بوسعنا هنا، الإشارة إلى نتائج دراسة أُجريت عام 2017 بالشراكة بين مركز دراسات الاستدامة في جامعة لوند السويدية وجامعة بريتيش كولومبيا الكندية ، أفادت بأن بمقدور كل فرد منّا، اتخاذ ثلاثة قرارات ذات طابع شخصي، من شأنها إحداث تقليص سريع في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وهي تقليل حركة السفر بالطائرات والسيارات، وكذلك استهلاك اللحوم.

وقد أظهرت دراسة نُشِرَت عام 2018، أن ثمانية في المئة من الانبعاثات الغازية في العالم، ناجمة عن النشاط السياحي، وأن لحركة السفر الجوي نصيب الأسد في هذا الشأن.

ويقول كيمبرلي نيكولاس، الباحث في مركز دراسات الاستدامة في جامعة لوند، إن “التوقف عن استخدام الطائرات في التنقل أو تقليص اللجوء إلى هذه الوسيلة في السفر، هو التحرك الأكثر فعالية الذي يمكننا القيام به” لتقليص الانبعاثات الغازية، وبفارق كبير في أثره المحتمل، عن أي تحرك مماثل له على هذا الصعيد.

ويوضح نيكولاس بالقول: “يوازي إجمالي الانبعاثات الناجمة عن قيام شخص ما برحلة طيران بين نيويورك ولندن ذهابا وإيابا، نظيره الناتج عن استهلاكه اللحوم لعامين كاملين تقريبا”.

وفي ضوء هذه الإحصائيات المذهلة، والتي يعززها ما نراه من مؤشرات ملحوظة للانعكاسات البيئية الإيجابية لبقاء سكان العالم في منازلهم لدحر خطر وباء كورونا؛ يتعين علينا طرح سؤال مفاده: هل ينبغي علينا العودة إلى التنقل والسفر على الشاكلة التي اعتدناها من قبل، حينما يُسمح لنا بذلك؟

بالنسبة لنيكولاس تبدو الإجابة واضحة؛ إذ يقول: “لا يمكن أن نحظى بمناخ آمن من المخاطر البيئية، إذا عادت صناعة الطيران للعمل على منوالها المعتاد”.

على أي حال، لا شك أننا بحاجة إلى إدخال تغييرات كبيرة على الطريقة التي نتنقل بها عبر العالم، إذا كنا نرغب في تحقيق الهدف المنصوص عليه في اتفاق باريس للمناخ، بشأن احتواء ارتفاع درجة حرارة الأرض بحلول عام 2030، بما لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية أكثر من المستوى الذي كانت عليه، في عصر ما قبل الثورة الصناعية.

ومن الواجب أن ينبثق جزء من الحلول التي يمكن اتباعها للوصول إلى هذه الغاية، من داخل صناعة الطيران وقطاع النقل نفسيهما.

وتحرز بعض شركات الطيران تقدما على هذا الصعيد، عبر إجرائها أبحاثا بشأن عدد من الطرق المبتكرة الرامية لتقليل اللجوء إلى الوقود التقليدي، مثل استخدام بدائل كالوقود الحيوي، أو تشغيل طائرات ذات محركات تعمل بالطاقة الكهربائية.

ويقول كولين ميرفي، نائب مدير معهد سياسات الطاقة والبيئة والاقتصاد بجامعة كاليفورنيا– ديفيز: “لا تزال هناك إمكانية كبيرة للاقتصاد في استهلاك الوقود، عبر إعادة تصميم الطائرات لتصبح أكثر كفاءة” في هذا المضمار.

ويوضح ميرفي قائلا: “يمكن أن يؤدي استخدام الزيوت المستعملة والوقود الحيوي بدلا من الوقود التقليدي إلى تقليص الغازات المُسببة للاحتباس الحراري بنسبة تقارب 60 في المئة”.

لكن ربما تواجهنا هنا مشكلة، تتعلق بمساحة الأراضي المتوافرة لدينا، لاستغلالها لإيجاد مصادر جديدة، يتم من خلالها الحصول على الوقود الحيوي، وهو وقود متجدد مشتق من مواد عضوية.

أما بالنسبة للطائرات التي تعمل بالطاقة الكهربائية، فإن المشكلة التي تواجه استخدامها في الرحلات الطويلة، كما يقول ميرفي، تتمثل في محدودية التقنيات الخاصة بالبطاريات التي تعتمد عليها محركاتها.

في الوقت ذاته، سنظل بحاجة لتغيير النهج الذي نتبعه كأفراد على صعيد السفر والتنقل، حتى في حال نجاح مثل هذه التقنيات البديلة للوقود التقليدي. فقد مارسنا أسلوب “التباعد الاجتماعي” لحماية كبار السن والمصابين بضعف المناعة، ووقفنا في شرفاتنا لإبداء الدعم وتقديم التحية للعاملين في القطاع الصحي، فضلا عن أننا شاركنا في نشر الرسائل الداعية للبقاء في المنازل، عبر منصات التواصل الاجتماعي.

ويعني هذا، أنه سيتعين علينا – عندما تنتهي الأزمة الحالية – أن نخرج من إطار نظرتنا الضيقة لمصالحنا الشخصية، وأن نتحرك كأفراد من أجل تحقيق صالح كوكب الأرض. فكما أرغمنا الوباء على إبطاء وتيرة حياتنا، ينبغي أن نبحث إمكانية أن نتبنى فيما يتعلق بالسفر والرحلات، نهجا أبطأ ومدروسا بشكل أكبر.

وربما يعني ذلك القيام برحلة واحدة طويلة قليلا كل عام، بدلا من خمس أو ست رحلات قصيرة، ما سيؤدي إلى تقليل إجمالي الانبعاثات الغازية الناجمة عن أسفار كل شخص منّا. وتتيح رحلات مثل هذه الفرصة للمرء، لإقامة علاقة أكثر قوة مع البقاع التي يقصدها، بفضل بقائه فيها وقتا يسمح له بفهم سكانها وثقافتها وروعة مناظرها الطبيعية، على نحو ذي مغزى.

ويعتبر شانون ستويل، الرئيس التنفيذي لمنظمة “أدفنتشر ترافيل ترايد أسوسيياشَن”، أن إفراط المرء في القيام برحلات سياحية خارجية لا يعدو “سوى ضرب من ضروب الاستهلاك المفرط. لا يزعجني أن أرى عدد السائحين يتراجع بوجه عام، ونوعية السياحة نفسها وقد تحسنت، بحيث يفهم الناس المقصد الذي يزورونه بشكل أفضل، ويتركون أثرا إيجابيا فيه، بدلا من نمط السياحة المفرطة، الذي يؤدي إلى اكتظاظ الزوار، وحدوث تلوث للبيئة، وفقدان لموائل الحياة البرية”.

ومن بين الأساليب التي يمكننا اللجوء إليها لتخفيف ما تتعرض له البيئة من ضغوط بسبب حركة السياحة والسفر، الاكتفاء بجعل غالبية أسفارنا محلية الطابع، لا خارج حدود الدول التي نعيش فيها. ويرى نيكولاس أن تبني هذا الخيار هو أقصى ما يمكننا فعله، لتحقيق أكبر تأثير ممكن على ذاك الصعيد.

ويردف قائلا: “اعتدت في السابق السفر بالطائرات، لكنني وجدت طرقا أخرى، يتسنى لي عبرها أن أنعم بهذا النوع من المغامرات، واستطيع من خلالها رؤية كل ما هو جديد. ويتمثل ذلك في الأساس، في استخدام وسائل نقل أكثر بطئا، والسفر على نحو واعٍ بأهمية الحفاظ على البيئة من خلال إيلاء اهتمام أكبر بالمناطق المحلية ومناظرها الطبيعية وثقافتها كذلك”.

ويبدو الأمر هنا أشبه بأن تفضل أن تستمتع بأحد الشواطئ في بلادك، بدلا من السفر إلى دولة أخرى للاستمتاع بشواطئها، ما يعني إرجاءك التسبب في التأثير بشكل ضار للبيئة – من خلال زيادة الانبعاثات الكربونية فيها – لرحلة أكثر أهمية بالنسبة لك.

من جهة أخرى، بوسعك أن تدفع تعويضات عن الانبعاثات الكربونية التي تنجم عن سفرك جوا، من خلال التبرع – مثلا – بمبلغ مالي للمشروعات الرامية للحفاظ على البيئة، مثل تلك التي تستهدف الحيلولة دون إزالة الغابات.

إلى جانب ذلك، من المهم أن تختار بعناية الطريقة التي تسافر بها جوا. فرغم أن اختيارك للسفر على درجة رجال الأعمال أكثر جاذبية، لأنه يوفر لك مساحة أكبر لقدميك مثلا، فإن لجوءك لهذا الخيار، سيجعلك مسؤولا عن إحداث قدر أكبر من الانبعاثات الكربونية. ويعود ذلك إلى أن ما سينجم عن رحلة الطائرة من انبعاثات في هذه الحالة، سيُقسّم على عدد أقل من الركاب، ممن تضمهم عادة تلك الدرجة.

ويقول ميرفي في هذا الشأن: “كلما ازدادت كثافة المكان الذي تشغل حيزا منه (في الطائرة)، انخفضت بشكل طفيف الانبعاثات الصادرة عن كل راكب فيها، لكل ميل تقطعه خلال رحلتها”.

ويقول أوستِن بروان، المدير التنفيذي لمعهد سياسات الطاقة والبيئة والاقتصاد بجامعة كاليفورنيا–ديفيز: ” نحتاج إلى التحلي بالشفافية، على صعيد توضيح الأثر البيئي الفعلي لخياراتنا (في السفر). ونحن بحاجة كذلك لأن تتماشى الأسعار مع هذه التأثيرات المحتملة، أي أن نجعل بطاقات السفر على الدرجة الأولى أكثر تكلفة، على سبيل المثال”.

كما أن بمقدورنا تقليل إجمالي الانبعاثات الكربونية، التي يسببها كل منّا عند زيارته لأي من بقاع العالم، من خلال الحرص على احترام بيئة مقصدنا وثقافته. ومن بين وسائل تحقيق هذا الهدف، اختيار مكان إقامة ذي طابع مستدام من الوجهة البيئية، والانخراط في أنشطة تتسم بالصفة نفسها كذلك، بجانب اختيار وسائل مواصلات صديقة للبيئة، خلال تنقلاتك في المكان الذي تزوره. وقد يحدو بك ذلك إلى أن تقوم برحلتك من خلال شركة سياحة محلية تتوخى الاستدامة والحفاظ على البيئة في نشاطها، باعتبار أنها ستكون أكثر دراية بالمشهد السياحي في منطقتها.

ومن بين الطرق التي تكفل تفادي الوقوع في شِرْك شركات السياحة التي تدعي الحرص على الحفاظ على البيئة دون اتخاذ إجراءات عملية على هذا الصعيد، أن يبحث المسافرون عن الشركات، التي تتبني خططا شفافة وواضحة في هذا الصدد.

ويمكننا هنا الاستعانة برأي شانون غويان، المسؤولة في منظمة “تِرَد رايت” المعنية بالسياحة المستدامة وغير الهادفة للربح، والتي تقول إن بوسعك التحقق مما إذا كانت شركة ما، تلتزم بما تعلنه بشأن حرصها على البيئة من عدمه، إذا طالعت تقارير تؤكد حدوث تأثيرات بيئية إيجابية نتيجة لذلك.

وقد أعدت المنظمة التي تعمل فيها غويان، “قائمة مرجعية”، من شأنها مساعدة المسافرين على تبني عادات صديقة للبيئة، وعلى أن يكونوا أكثر وعيا بما تُخلّفه خياراتهم في التنقل والسفر، على البيئة من حولهم.

وتضيف: “لا نزال بحاجة للسفر، فالسياحة تشكل أحد أكثر القطاعات التي تستوعب العمالة في العالم بأسره، كما أن هناك مقاصد ووجهات في شتى أرجاء الأرض، تعتمد في بقائها على (العائدات التي تدرها عليها) حركة السياحة والسفر”.

فبجانب الأهمية التي يكتسي بها الاقتصاد القائم على السياحة في العالم، ينطوي السفر والترحال، على فوائد لنا كأفراد. فعندما نُقْدِم على ذلك، بشكل هادف وذي مغزى، نكتسب فهما عابرا للثقافات، ونبلور مشاعر تعاطف مع أشخاص خارج دائرتنا المباشرة. فالسفر يمنحنا منظورا عالميا، نحتاجه لكي نُعنى بمستقبل كوكب الأرض، الذي يشكل موطنا لنا جميعا.

وقد مررت خلال مسيرتي الصحفية، بالعديد من الخبرات والتجارب، التي جعلتني أُكِنُ تقديرا عميقا لهذا العالم الفسيح المتنوع البديع بلا حدود، الذي نعيش فيه، وولَدَت في نفسي الرغبة في حمايته والحفاظ عليه. فقد احتسيت الشاي بالنعناع مع البدو في قلب الصحراء الأردنية، وحدقت في عينيْ غوريلا جبلية في أدغال غابات رواندا، وتعقبت النمور جنبا إلى جنب مع بعض عشاق الطبيعة الهنود تحت أشعة الشمس الحارقة في أنحاء بلادهم.

الآن، تحرمنا أزمة وباء كورونا من القدرة على السفر والترحال، ليصبح هذا الأمر أشبه بضرب من الترف والرفاهية كما لم يبدُ من قبل.

ويعقب ستويل على ذلك بالقول: “ربما تعطينا هذه الأزمة الفرصة، لكي نرسخ في أذهاننا طريقة تفكير جديدة حيال مسألة السفر، تفيد بأنه ميزة وليس حقاً مكتسبا”.

في نهاية المطاف، بمقدوري القول إنه ليس بوسعي تخيل عالم دون سفر، لكنني أدرك في الوقت نفسه، أنه ما لم نغير الطريقة التي نسافر بها، فلن يتبقى لنا في المستقبل، كوكب يمكننا استكشافه من الأصل.

كلوي بيرغ صحفية/ بي بي سي