كنت تائهة وهذا الممثل السوري جمع شمل أسرتي العربية الأمريكية؟
كلما كان ذلك ممكناً، أذهب مع أطفالي الثلاثة الصغار في زيارة إلى منزل والديّ الذي يقع على بعد ولايتين. يحب الصغار ذلك لأن طعام جدتهم هو الأفضل (وهم محقون في ذلك) ويلعب معهم سيدو (الجد) الورق والطاولة.
وبسبب جائحة “كوفيد-19″، لم يكن هذا ممكناً، وأفتقد هذه الأوقات، ربما لأن الذهاب إلى المنزل يشبه السباحة عائداً إلى بر الأمان. أفتقد تلك السنوات الأبسط والأوضح في طفولتي، مع أنها لم تبدُ حينها سهلة للغاية.
خلال زيارتي الأخيرة، عدت إلى وقتٍ عندما كانت السعادة تعني البقاء حتى وقت متأخر مع أبي لمشاهدة غوار الطوشة، أحد أشهر الشخصيات في الأفلام والتلفزيونات العربية.
إن مشاهدة غوار، الذي أدى دوره الممثل الكوميدي السوري دريد لحام، هي تقليد قديم في أسرتنا العربية الأمريكية. في تلك الليلة شاهدناه في فيلم “صح النوم” وهو فيلم سوري مبني على مسلسل يعود إلى السبعينيات يحمل الاسم نفسه ومن إخراج خلدون المالح.
عُرض الفيلم لأول مرة عام 1975، مما يجعله قديماً من مثل عمري. أوصى به صديق عزيز نشأ في كندا، أمضى هو الآخر طفولته في مشاهدة غوار مع والده المهاجر، وأصر على أنه أفضل فيلم لدريد لحام، بدعوى أنه دائماً يجد فيه شيئاً جديداً.
يستند فيلم “صح النوم” إلى نموذج نمطي؛ إذ إن غوار هو عامل في فندق متيَّمٌ برئيسته العدوانية، فطوم، التي تستمتع بتوبيخه على خطأ تلو الآخر. رغم فرصه المشكوك فيها، يبتكر غوار طرقاً لإثارة إعجابها كي تتزوجه.
في مشهد في بداية الفيلم، يختلس غوار بيضة مسلوقة من بائع متجول ويذهب بعيداً. بينما يمر غوار بجوار شخص غريب، يمد يده بلا مبالاة، ودون سابق إنذار، ليحطم بيضته على جبهة الرجل.
أنفجر أنا وأبي في الضحك في هذه اللحظة غير المتوقَّعة.
نجح غوار مجدداً (في جعلنا نضحك).
اختلاط الهويات المختلفة
غوار الطوشة هو شخصية محبوبة في جميع أنحاء العالم العربي، غير أنه يمثِّل أيضاً أهمية كبيرة بالنسبة لأناس مثلي، أبناء المهاجرين العرب الذين قضوا حياتهم في التعايش مع ثقافتين (مختلفتين).
كانت شخصية دريد لحام مدخلاً إلى عالم والدينا. صنع مع فرقته الكوميدية أفلاماً لا يتعين عليك لكي تفهم الدعابات التي يطلقونها فيها أن تكون لغتك العربية مثالية، لأن فكاهته كانت جسدية ولفظية أيضاً. يعتبر تكسير بيضة على جبين شخص غريب أمراً كوميدياً للغاية في أي لغة.
عندما كنت في مرحلة المراهقة، ازدادت حدة هذه النقاشات. كافحنا من أجل أمر أكثر تحديداً، لكنه بالغ الأهمية؛ هويتي الثقافية في الولايات المتحدة. كم كنت أتحول إلى أمريكية؟ هل كنت أفقد هويتي العربية؟
في عدد من أوضح ذكريات طفولتي، أجلس القرفصاء أمام التلفاز الكبير في غرفة معيشتنا الصغيرة، أضحك بينما يرتشف غوار حساءه بصوت عالٍ بما يكفي للفت أنظار جميع رواد المطعم، أو كنت أضحك بشدة أثناء تفريغه الهواء من إطارات دراجة غريمه النارية.
كنت أنظر خلفي إلى والديّ، أجذب اهتمامهما، وكنا نضحك سوياً. بدت تلك اللحظات مميزة، لا سيِّما لأن العديد من أحاديثنا حول كوننا عرباً كانت مشحونة أكثر.
رُغم ذلك، كان لا يزال بوسعنا الوصول إلى حل وسط من خلال تغيير هذه المواجهة المزعجة، التي جذبت جيلين بالقدر نفسه، وكل منهما على طرفي نقيض في ما يتعلق بتجربة الوصول إلى أمريكا. كان والدايّ المهاجران، اللذان وصلا إلى الولايات المتحدة في عام 1967، قد تكيفا مع الحياة الأمريكية وأحباها، لكنهما كانا حزينين على الوطن، في حين شعرت باستمرار بالتشتت بين وطنين.
ففي حين شعرت كثيراً بإحباطٍ لأن رفاقي الأمريكيين لم يتقبلوني لكوني عربية، شعرت أيضاً بالغضب لأن والديّ العرب لم يفهماني.
في ما بعد، تعلمت ذلك الدرس الذي يجعل جميع الأجداد الجدد يبتسمون برضا؛ من السهل أن تحكم على والديك، على الأقل حتى تصبح أنت نفسك والداً منهم.
الشعور بالضياع إلى الأبد
منذ حوالي عقد من الزمان، أضعتُ طفلي في متجر وول مارت المزدحم، وفي تلك الدقائق الأربع، كنت على يقين بأنني قد أصبحت في جحيم. غمر الهلع جسدي حتى عندما ناديت باسمه وصرخت بوصفه لموظفي المتجر: “هو ولد صغير، يرتدي كنزة زرقاء بقلنسوة، وشعره أسود، وعيناه بنيتان”.
صاحت أخته الكبرى، وكانت ذكية بالفعل في سن الرابعة: “تعال يا جورج.. أمي معها حلوى”. نجحت حيلتها؛ إذ خرج من وراء صندوق عربة أطفال كبير تحت أحد أرفف المعروضات.
إليك الأمر المهم، أدركت لاحقاً بعد أن أمسكته، هو وطفليَّ الآخرين، وخروجنا مسرعين من المتجر إلى أمان بوابات الأطفال المنزلية في بيتي: لم يكن (جورج) يعلم أنه قد ضاع.
أعلم أن والديَّ، بتنشئتهما أطفالهما في بلد جديد، واجها باستمرار صورة أقل ذعراً من تجربتي؛ لقد خشيا من حقيقة أننا، بينما شققنا طريقنا في الحياة الأمريكية كعرب، قد نصبح بلا هوية ولا نعرف ذلك أبداً.
أن تنشأ في أمريكا الشمالية لأبوين مهاجرين عربيين يعني أن تضيع إلى الأبد، ولكنك لا تكون مدركاً لحالتك، بل تحسب أنك تلهو وتستكشف. عندما كنت طفلةً، شاهدت غوار وأيضاً شاهدت مسلسل Punky Brewster الكوميدي. أكلت يبرق الدوالي -ورق عنب محشي- وأيضاً شطائر النقانق. في بعض الأحيان كنت في مزاجٍ لسماع صوت بروس سبرينغستين الأجش، وأحياناً لصوت فيروز الصافي مثل بلورات الكريستال.
الآن، عندما أنظر إلى الماضي، أدرك أنني كنت أتلاعب بالهويات، بالطريقة التي يجمع بها الأطفال الأحجيات، عندما يجربون قطعاً مختلفة أملاً أن تكون إحداها هي القطعة المناسبة.
مع تقدمي في العمر، أصبح الانتقال جيئة وذهاباً بين الثقافات يتعلق بالاستكشاف بقدر أقل ويتعلق أكثر بشعوري بالانعزال. عندما كنت مراهقةً، فهمت أن أصدقائي نظروا إليَّ باعتباري “عربية”، أجنبية، أي شخص آخر غيرهم.
كان ذلك تحولاً مفاجئاً، ذلك الذي حدث خلال حرب الخليج الأولى، عندما نعتني رفاقي في الفصل بصفات مهينة واتهموني بأنني إرهابية. لم تتعافَ هويتي أبداً.
جلبت زيارة فلسطين بعد بضع سنوات قليلاً من الراحة، إذ رحب بي أقاربي في الضفة الغربية لكنهم نظروا إلي على أنني”أمريكية”. كنتُ تلك القريبة التي تسليهم عندما كنت أحاول بشكل سيئ أن أندمج معهم، الأمر الذي بدا مزعجاً، رغم أنهم ظنوا أنني أعيش حياة جيدة في الولايات المتحدة.
كيف عساي أن أشرح لهم أنني كنت كثيراً ما أشعر بالوحدة هناك في الولايات المتحدة، حتى في منزلي؟
لم يفهم والداي عالمي، وبدا لي عالمهما لا يمكن الوصول إليه. كانت حياتي بمثابة محادثة عربية سريعة، لم أفهم خلالها سوى 75% مما كان يُقال.
غير أن الحب الذي ساد منزلنا في طفولتي لم يكن بحاجة إلى ترجمة. كان هناك عزف على العود، وكان هناك عناق، وكانت هناك ضحكات.
أن تكون قد تربيت على أيدي أبوين مهاجرين هو بمثابة تجربة فريدة من نوعها، لكن تربيتك لا تتقيد بمخطط واضح. ليس هناك قالب معين. بالأحرى، يجري تجميعك مثل الفسيفساء، المكونة من أحجار مختلفة، من ثقافات وتقاليد مختلفة؛ بعضها ناعم، وبعضها مستدير، وبعضها مدبب، وبعضها مشقوق.
العودة إلى الوطن
والآن، كلما تقدمت في العمر ازداد شعوري بالتشتت. وربما ذلك هو السبب الذي يجعلني، كشخص بالغ، أتوق إلى أمان يتعلق بكوني مرتبطة بشيء ما.
إحدى هذه الطرق هي التسكع مع أبي، وأن أعيش مجدداً متعاً أبسط مثل تناول البرتقال، وشرب الشاي بالنعناع، والضحك على غوار وهو يُحدث صوتاً بصندله الخشبي، والاستمتاع بالشعور النادر بمواكبة هويتي العربية.
أُدرك الآن أن الحياة لا تتحرك في خط مستقيم، وأن الأحلام تحيد عن مسارها وتتغير بحكم الضرورة، والمخاوف التي لم تكن تعلم أبداً أنها بداخلك تظهر لتفاجئك.
في فيلم “صح النوم”، يتحول واحد من مخاوف غوار إلى حقيقة؛ وذلك عندما تلتفت حب حياته، فطّوم، إلى رجل آخر، وهو ملحن مشهور يدعى حسني. وبدافع الغيرة، يقطع غوار أوتار آلة القانون الخاصة بحسني، قطعها جميعاً باستثناء الوتر الموجود في المنتصف.
وعلى الفور، يشتبه حسني في غوار الذي استدعته فطّوم ليشرح الأمر. يقول غوار بابتسامة بريئة جذابة إنه كان يحاول فقط أن يجعل عمل حسني أسهل.
يشرح قائلاً: “أترين”، وأضاف محركاً أصابعه: “عندما يعزف المرء على القانون، فهو في الواقع على أي حال يبحث فقط عن هذا الوتر الأوسط”.
بينما أضحك بصوت عالٍ، جالسةً مع أبي، أشعر بالسلام، أشعر بالامتنان لغوار؛ لأنه جعل هذه اللحظة يسهل العثور عليها.
حتى عندما انقطعت الصلات مع هويتيّ العربية والأمريكية، ما زلت أملك الوتر الأوسط، ذلك الوتر المتين في المنتصف، ولا يزال بإمكانه إصدار ألحان الموسيقى.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
عربي بوست
اقرأ أيضا: ما علاقة الصين ب حلوى “الهيطلية” ؟
شاركنا تعليقك على هذه المقالة في صفحتنا على موقع فيسبوك