الجمعة , ديسمبر 27 2024
شام تايمز

هل ما تقوم به اليوم يغيّر ما فعلته البارحة؟ في العالم الكمومي يبدو بأن ذلك ممكناً!

شام تايمز

هل ما تقوم به اليوم يغيّر ما فعلته البارحة؟ في العالم الكمومي يبدو بأن ذلك ممكناً!
نحن معتادين على ألغاز الجرائم، التي لم نلحظ فيها حتى كيفية تلاعب مؤلفيها بالزمن. في العادة، تحصل الجريمة قبل وقتٍ معتبر من الوصول إلى منتصف الكتاب، لكن التعتيم في المعلومات يبقى موجوداً عند هذه المرحلة، ولن يعرف القارئ ما حصل أبداً، إلا عند الوصول إلى الصفحة الأخيرة. ووفقاً لعالم الفيزياء كاتر مورش Kater Murch: “إذا مُزقت الصفحة الأخيرة من الكتاب، هل سيستطيع القارئ تخمين ما حصل عبر قراءته للمعلومات الموجودة حتى لحظة الوصول إلى الحادث المميت، أم يتوجب عليه قراءة كامل الكتاب؟”. الجواب، الذي يبدو واضحاً جداً في حالة لغز الجريمة، هو أقل وضوحاً في عالم ميكانيك الكم، فهناك يكون عدم التعيين أساسياً عوضاً عن عملية الاستنباط والاستنتاج، الناجمة عن متعة القراءة. يعتقد مورش، الأستاذ المساعد في الفيزياء في كلية العلوم والفنون في جامعة واشنطن، أنه حتى بمعرفتك لكل شيء تُخبرك إياه ميكانيك الكم عن جسيم كمومي، لن تستطيع التنبؤ بدقة نتائج أبسط التجارب الهادفة إلى قياس حالته، فالميكانيك الكمومي يُقدم احتماليات إحصائية بالنسبة للنتائج المحتملة فقط. تنص وجهة النظر التقليدية على أن عدم التعيين هذا ليس خللاً في النظرية، وإنما هو حقيقة من حقائق الطبيعة، فحالة الجسيم ليست مجهولة فقط، وإنما غير محددة بشكلٍ صحيح قبل أن يتم قياسها، وفعل القياس نفسه هو ما يُجبر الجسيم على الانهيار إلى حالة محددة. يصف كاتر مورش، في عدد 13 فبراير/شباط من مجلة Physical Review Letters، طريقة لتضييق هذه الاحتماليات. فمن خلال الجمع بين معلوماتٍ عن تطور نظام كمومي أثناء القيام بسبره، ومعلومات عن تطوره وصولاً إلى تلك المرحلة، تمكن مخبره من تضييق الاحتماليات المتعلقة بالتخمين الصحيح لحالة النظام من 50-50 إلى 90-10. الأمر مشابه للقول بأن ما نقوم به اليوم غيَّرَ ما فعلناه البارحة. وكما يقترح هذا التشبيه، تؤدي هذه النتائج إلى آثار شبحية على كلٍ من الزمن والسببية –يحصل ذلك على الأقل بالنسبة للعالم الميكروسكوبي، الذي تُطبق فيه ميكانيك الكم. قياس الشبح حتى وقت حديث، لم يكن بإمكان الفيزيائيين استكشاف الخواص الكمومية للجسيمات المفردة إلا عبر تجارب ذهنية، وذلك ناجمٌ عن أنَّ أي محاولة تجري لرصد تلك الجسيمات مباشرةً، تتسبب في فقدانها لخواصها الكمومية الغامضة. لكن في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، اخترع فيزيائيون أجهزة تسمح لهم بقياس هذه الأنظمة الكمومية الهشة، ويُنجز الأمر بدقة بحيث لا يتسبب ذلك في الانهيار المباشر لحالة محددة. الآلة التي استخدمها مورش لاستكشاف الفضاء الكمومي، عبارة عن دارة بسيطة فائقة الموصلية (superconducting). تدخل هذه الدارة إلى الفضاء الكمومي عندما يجري تبريدها إلى درجة حرارة قريبة من الصفر المطلق. استخدم فريق مورش مستويين طاقيين قاعديين مع هذا البت الكمومي (qubit) أو الكوبت، وهما حالتي الطاقة الأساسية والحالة المثارة. وبين هذين المستويين، يوجد عدد غير محدود من الحالات الكمومية المتراكبة من حالات الإثارة والحالة الأساسية. تُكتشف الحالة الكمومية للدارة عبر وضعها داخل صندوق ميكروي، إذ يُرسل بضعة فوتونات ميكروية إلى الصندوق، لتتفاعل حقولها الكمومية مع الدارة فائقة الموصلية. وعندما تخرج الفوتونات من الصندوق، تحمل معها معلومات عن النظام الكمومي. لا يقوم هذا القياس الضعيف (weak measurement) بالتسبب باضطراب الكوبت، على النقيض من القياس القوي، الذي يُجرى باستخدام فوتونات تُوجد في طنين مع الفرق الطاقي بين الحالتين، مما يؤدي إلى ظهور الدارة في إحدى الحالتين فقط. لعبة تخمين كمومية في مجلة Physical Review Letters، يصف مورش لعبة تخمين كمومية تجري بالنسبة للكوبت، إذ يقول: “بدأنا كل قياس بوضع كوبت ضمن تراكب من الحالتين. بعد ذلك، قمنا بإجراء قياس قوي، لكننا أخفينا النتائج، واستمرينا بمتابعة النظام عبر إجراء قياسات ضعيفة”. من ثمَّ حاول الفريق تخمين النتيجة المخفية، التي تُمثل نسختهم الخاصة بالصفحة المفقودة من لغز الجريمة. يقول مورش: “ستصل احتمالات تخمينك إلى 50-50 فقط، عند إجرائك للحسابات التقدمية باستخدام معادلة بورن، التي تُعبر عن احتمالية إيجاد النظام في حالة معينة. لكن بإمكانك أيضاً الحساب تراجعياً، باستخدام شيء يُعرف بمصفوفة التأثير (effect matrix). خُذ كل المعادلات ومن ثمَّ قم بعكسها، لتجد أن هذه المعادلات ستستمر بالعمل، ويُمكنك الحصول حينها على مسار نحو الخلف. إذاً هناك مسار يتجه للأمام وآخر للخلف، وإذا أخذنا هذين المسارين ووضعناهما معاً، وقمنا بوزن المعلومات بشكلٍ متكافئ، سنحصل حينها على ما ندعوه بالتنبؤ الاستداركي المتأخر، أو بتنؤات الماضي (retrodiction)”. الشيء المحطم بالنسبة للتنبؤ بالماضي هو دقته البالغة 90%. فعندما تفحصه الفيزيائيون، مقارنين إياه بالقياس المخزن للحالة المبكرة من عمر النظام، وصل إلى تسعة من عشرة. أسفل حفرة الأرنب تقترح لعبة التخمين الكمومي طرقاً أكثر قوةً لإجراء كل من الحساب الكمومي، والتحكم الكمومي بالأنظمة المفتوحة كالتفاعلات الكيميائية. لكن ينتج عن هذه اللعبة آثار كبيرة على العديد من المسائل الفيزيائية الأشد عمقاً. على سبيل المثال، تقترح هذه اللعبة أن الزمن في العالم الكمومي يجري إلى الأمام والوراء، في حين نجده يجري إلى الأمام فقط في العالم الكلاسيكي. يقول مورش: “لطالما اعتقدت بأن القياس سيحل مسألة تناظر الزمن في الميكانيك الكمومي، فإذا قمنا بقياس جسيم موجود في حالات تراكب، وانهار إلى إحدى حالتين، سيبد
و الأمر مشابهاً لعملية يجري فيها الزمن إلى الأمام”. لكن في تجربة التخمين الكمومي، عاد تناظر الزمن من جديد. وتؤكد الاحتمالات المحسنة، أن الحالة الكمومية المُقاسة تقوم بطريقة من الطرق بدمج المعلومات القادمة من المستقبل مع تلك من الماضي. ويدل هذا على أن الزمن، المعروف بكونه سهم في العالم الكلاسيكي، عبارة عن سهم برأسين في العالم الكمومي. يقول مورش: “الأسباب الكامنة وراء كون العالم الواقعي مؤلف من جسيمات كثيرة، ووراء جريان الزمن للأمام، وتزايد الانتروبي غير واضح. لكن يعمل العديد من الأشخاص على حل هذه المسألة، وأتوقّع حلها خلال السنوات القليلة القادمة”. على أية حال، ففي عالم يكون فيه الزمن متناظر، هل سيوجد شيء كالسبب والنتيجة؟ بغرض استكشاف هذه المسألة، يقترح مورش إجراء تجربة الكوبت، التي ستقوم بإقامة سلسلة من حلقات رد الفعل (سلاسل من السبب والنتيجة)، ومن ثمَّ محاولة تشغيل تلك الحلقات ذهاباً إلى الأمام وعودةً إلى الخلف. يقول مورش: “يتطلب تشغيل تجربة واحدة من هذه التجارب 20 أو 30 دقيقة، وبضعة أسابيع لمعالجتها، وسنة كاملة نضرب خلالها رؤوسنا محاولين معرفة فيما إذا كنا مجانين أم لا”. ويضيف: “في نهاية اليوم، أجد العزاء في حقيقة امتلاكنا لتجربة حقيقية، وبيانات حقيقية رسمناها على منحنيات حقيقية”.
ناسا ان ارابيك

شام تايمز
شام تايمز
شام تايمز

اترك تعليقاً