الأزمة المصيرية الأميركية والخطة السرية لكيسنجر
جورج حداد
في الثلث الأخير من القرن الماضي اضطلع كل من اليهودي هنري كيسينجر والكانيبال الكاثوليكي سبيغنيو بريجينسكي بدور كاردينال للدبلوماسية الاميركية.
ويقول كيسينجر في مذكراته ان مسؤولا سعوديا كبيرا سأله مرة: من سيكون الرابح في الصراع بين القطبين الشرقي بزعامة روسيا والغربي بزعامة اميركا؟ فأجابه كيسينجر: الرابح سيكون من تقفون انتم معه!!!
وبناء على هذه “الروشتة” فقد نجحت الدبلوماسية السرية الاميركية في استمالة “العالم الاسلامي” لاعلان “الجهاد” ضد الوجود السوفياتي السابق في افغانستان، وخوض حرب عصابات “اسلامية مقدسة” ضد الجيش الروسي ـ السوفياتي، الذي لم يكن مستعدا ايديولوجيا لمعالجة تلك الحرب بطريقة عسكرية جذرية (وهو ما كان قادرا تماما على القيام به الا ان عقيدته الحربية الاممية كانت تمنعه من ذلك). وقد اسفرت معركة افغانستان عن النتائج التالية:
1 ـ بعد الانسحاب الروسي ـ السوفياتي من أفغانستان تم سحق القوى الديمقراطية، ومن ثم سحق القوى الافغانية الموالية للثورة الايرانية، بلا رحمة. وتم رمي افغانستان في براثن المصير المجهول وتحويلها الى مزرعة خشخاش ومخدرات، ومزرعة لتفريخ الوحوش البشرية من الارهابيين التكفيريين.
2 ـ تحطيم هيبة ومعنويات الجيش الروسي ـ السوفياتي، الذي كانت هزيمته في افغانستان هزيمة ذاتية سياسية وعقائدية لا هزيمة عسكرية بالمعنى الحرفي، الضيق والواسع، للكلمة. وبنتيجة ذلك فإن جميع بؤر المعارضات المشبوهة، واليهودية، والكاثوليكية، والمرتبطة بالمخابرات الاميركية والغربية، بدأت ترفع رأسها بقوة في جميع بلدان الكتلة السوفياتية السابقة وفي الاتحاد السوفياتي السابق وفي روسيا بالذات، وشنت حملة سياسية وفكرية ودينية مزدوجة: ضد الاشتراكية والنظام السوفياتي، وضد روسيا. وأدى كل ذلك (بالاضافة الى عوامل اخرى) الى انهيار المنظومة السوفياتية وانهيار الاتحاد السوفياتي ذاته، والشروع في نهب ونهش وتفكيك روسيا نفسها. وعلى هامش هذه المعركة الكبرى، جرى أيضا شن حملة لتفكيك وتمزيق اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية، على قاعدة “فرق تسد”. وتم القضاء على الاتحاد اليوغوسلافي، لا بل وتم انتزاع مقاطعة كوسوفو من صربيا، وتحويلها الى قاعدة عسكرية ومخابراتية اميركية ووكرا للمافيا الالبانية التي اصبحت اميركا تعتمد عليها اكثر من اعتمادها على المافيا الايطالية ـ الصقلية.
والسؤال التاريخي الكبير هو: ماذا فعلت الصين الشعبية، صين ماو تسي تونغ والمسيرة الكبرى وحرب التحرير الشعبية، أمام هذه التراجيديا الكبرى للمسيرة الانسانية بأسرها؟
الجواب المر هو: ان الصين وقفت شامتة تتفرج على انهيار روسيا و”الاشتراكية السوفياتية”.
وقبل ذلك في 1969 كان قد وقع صدام مسلح على الحدود الروسية ـ الصينية نتيجة خلافات قديمة على ترسيم الحدود بين البلدين.
وفي 1971 قام هنري كيسنجر بزيارتين سريتين الى بكين للتحضير لزيارة الرئيس الاميركي نيكسون الى الصين.
وتمهيدا لذلك قام فريق رياضي اميركي (لاعبو بينغ بونغ) بزيارة علنية الى الصين ولعب ضد فريق بينغ بونغ صيني. وكانت هذه اول مظاهرة علنية للعلاقات بين اميركا والصين منذ انتصار الثورة الصينية في 1949. ودشنت ما سمي فيما بعد “دبلوماسية البينغ بونغ”.
وفي سنة 1972 قام الرئيس الاميركي الاسبق نيكسون بزيارة الصين. وعلى الاثر تم ابعاد تايوان من مجلس الامن الدولي، واعطاء مقعد الصين في المجلس للصين الشعبية. وبدأت عملية تحسين العلاقات بين اميركا والصين.
وفي 1979 قام دينغ شياو بينغ (خليفة ماو تسي تونغ) الذي يعتبر غورباتشوف الصين، بزيارة الى اميركا، واستقبل بحفاوة بالغة. ومنذ ذلك الحين بدأ شهر عسل حقيقي في العلاقات الاميركية ـ الصينية. وحينما كانت روسيا تفقد زعامتها للمعسكر الاشتراكي السابق الذي اصبح في خبر كان، وتتلقى الطعنات من كل جانب، وتلعق جراحها، كانت الصين تتمتع بشهر عسل طويل مع اميركا. وخلال عقدين او اكثر من الزمن تحولت اميركا الى مالك اكبر حصة من التوظيفات الرأسمالية الاجنبية في الصين. وتحولت الصين الى اكبر مقرض للدولة الاميركية المفلسة (اكبر شار لسندات الخزينة الاميركية)، والى اكبر مورد للسلع الى السوق الاميركية، التي هي ـ اي السوق الاميركية ـ كالبالون القابل للنفخ الى اقصى حد، بسبب النهب الاميركي للاقتصاد العالمي برمته، بواسطة طباعة الدولارات الورقية بدون تغطية ذهبية والتلاعب بالقيمة التبادلية للدولار حسبما تقتضي مضاربات البورصة، واستطرادا التلاعب بكميات واسعار النفط والغاز بفضل “الصداقة الاميركية” مع الدول النفطية العربية وغير العربية.
ويمكن لأي تحليل موضوعي، علمي ومنطقي أن يصل الى الاستنتاج بأن شهر العسل الاميركي ـ الصيني يكمن في أساس الطفرة الاقتصادية الكبرى للصين.
والان لدينا اللوحة الجيوستراتيجية العالمية التالية:
ـ1ـ ان اميركا فقدت الى الأبد آحاديتها القطبية، ولكنها لا تزال القوة العظمى الأولى خصوصا اقتصاديا. وفي الوقت ذاته فهي تعاني أزمة اقتصادية بنيوية مستدامة لا يدري أعظم منجمي الرأسمالية العالمية متى وكيف ستنفجر، وتنفجر معها الدولة الاميركية كلها كفقاعة صابون ويتحقق تماما شعار “الموت لاميركا!”.
ـ2ـ ان اميركا لا تخشى اوروبا لا سياسيا ولا عسكريا ولا اقتصاديا، بل ان اوروبا لا تزال تحت الحماية الاميركية، في جميع الحقول، بمواجهة روسيا.
ـ3ـ ان اميركا تخشى روسيا سياسيا وعسكريا، ولكنها لا تخشى منها، بل يمكنها التضييق عليها، اقتصاديا وماليا.
ـ4ـ ان اميركا لا تخشى الصين سياسيا ولا عسكريا، ولكنها ترتعد أمامها اقتصاديا. فبواسطة اليوان الرخيص (وترجمته الواقعية معدل اجور لليد العاملة شديد الانخفاض، اقل بعشر مرات واكثر من معدل اجور اليد العاملة لا الاميركية والاوروبية واليابانية فقط بل وحتى الهندية والاندونيسية والعربية والافريقية) ومن ثم بواسطة السلع بخسة الثمن (السعر) التي، كمدفعية الليزر، تخترق بها الصين جميع الحواجز وانظمة الحماية الجمركية والضرائبية. فاذا تفوق اجمالي الانتاج الصيني على حجم الانتاج الاميركي، فإن الانفجار الداخلي الاميركي يصبح محتما وبين ليلة وضحاها.
هل تقف أميركا مكتوفة الأيدي أمام هذا الوضع؟
كلا طبعا!
وهنا ينبري الثعلب العجوز كيسينجر (الذي صار في الـ 95 من العمر) ليقدم “نصيحة سرية” الى دونالد ترامب، (اصبحت “نصيحة كيسينجر” في متناول الصحافة الاميركية والعالمية) والشبيهة بنصيحته الى نيكسون في القرن الماضي.
وتقضي نصيحة كيسينجر بالعمل على استمالة روسيا كي تقف الى جانب أميركا ضد الصين، كما وقفت الصين الى جانب اميركا ضد روسيا في القرن الماضي.
ويمكن لاميركا ان تطرح امام روسيا “نقاط لقاء” عديدة منها:
ـ1ـ ان حجم الصادرات الروسية الى أميركا لا يتجاوز 3% من اجمالي الصادرات الروسية. وحجم الصادرات الاميركية الى روسيا هو اقل من هذه النسبة. فاذا تم التعاون وتفعيل التبادل التجاري بين البلدين فإن هذا سيضمن تزويد روسيا بمنتوجات التكنولوجيا العالية الاميركية، كما يضمن قاعدة واسعة للازدهار الانتاجي والاقتصادي الروسي، خاصة وان السلع الاميركية العادية لا تشكل مزاحما للسلع الروسية بل العكس.
ـ2ـ اذا تعمق خط التعاون والصداقة بين روسيا والصين، فمن الطبيعي والمنطقي ان تصل الامور الى درجة الغاء الحواجز الجمركية بين البلدين والغاء تأشيرات الدخول وتصاريح الاقامة وتصاريح العمل بينهما، كما هو الحال الان بين دول الاتحاد الاوروبي وكما كان الحال بين مختلف الجمهوريات في العهد السوفياتي. وفي هذه الحالة فإن الصين تشكل تهديدا وجوديا لروسيا كدولة وكشعب، اقتصاديا وديموغرافيا وجغرافيا. لان فتح الباب لحرية انتقال السلع والبشر بين البلدين سيؤدي الى اغراق روسيا بتسونامي كاسح من السلع الصينية الرخيصة جدا وبالتالي نسف الانتاج الروسي من اساسه، والاخطر من ذلك هو احتمالات تعرض روسيا لتسونامي بشري. فقبل اندلاع الازمة الاوكرانية ـ الروسية في 2014 كان يوجد 2 ـ 3 مليون عامل اوكراني يعملون في روسيا بدون تأشيرات دخول وبدون تصاريح عمل. ولكن 2 ـ 3 مليون هو شيء، ودخول 50 ـ 60 مليون صيني او اكثر للعمل في روسيا هو شيء آخر تماما. ويعني هذا التسونامي القاء عشرات ملايين العمال والحرفيين والمزارعين الروس في الشارع بلا اجور وبلا مأكل وبلا ملبس وبلا دواء وحتى بلا فودكا مهما كانت رخيصة ومغشوشة، ويعني افلاس صناديق الضمان الاجتماعي بطريقة صاعقة وعدم القدرة على التعويض على العاطلين عن العمل، بكل ما يعنيه ذلك من تدمير للمجتمع الوطني الروسي.
ـ3ـ وفي حال تم ذلك فما الذي يضمن ان لا يعمد القوميون ـ الشوفينيون الصينيون، بارادة او بدون ارادة الحكومة الصينية، الى اثارة الموضوع الجغرافي، اي مسائل الاراضي الحدودية وغير الحدودية المتنازع عليها، وان يعمد هؤلاء القوميون ـ الشوفينيون الى اجتياح الحدود الروسية بالملايين وعشرات الملايين من العصابات المسلحة؟!
اني واحد من الذين يثقون بصدق، وحنكة وحكمة القيادتين الروسية والصينية.
وانطلاقا من هذه الثقة أتساءل:
ـ كيف ستواجه هاتان القيادتان المخططات الجهنمية للامبريالية الاميركية، العدو اللدود للانسانية جمعاء؟
هذا ما ستكشفه لنا الايام القادمة، الحبالى بالاحداث الجسام!
العهد