استقبالات حافِلَة للاجِئين السُّوريين العائِدين, هل هِي نُقطَة النِّهاية للحَرب ؟
القاسِم المُشتَرك في أحاديث الغالبيّة السَّاحِقة مِن القادِمين من دِمشق بعد زِيارَة الأهل والأقارِب هُناك يتلخّص في بِضع كَلماتٍ: الحَياة طبيعيّة، الأمن مُستَتِب، المَطاعِم والمقاهي مُزدَحِمة بالزَّبائِن، والعاصِمة تَسهَر حتّى الصَّباح، وطَريق بيروت دِمشق تَشهَد حَركةً غير مُعتادَة في الاتِّجاهَين، لكن اتِّجاه العائِدين أكثر ازدحامًا.
الأنظار الآن تتركّز حول كيفيّة استيعاب الآلاف مِن اللاجئين السوريين الذين قرّروا العَودة إلى بلادهم بعد مُعاناةٍ شَديدةٍ في أماكِن اللُّجوء، وتتحدَّث وكالات الأنباء الأجنبيّة عن جُهودٍ روسيّةٍ سوريّةٍ مُشتَركةٍ لتَسهيل هَذهِ العَودة، وتَضرِب مَثَلاً بالاستقبال الكَبير الذي حَظِي بِه مِئات اللاجئين السُّوريين العائِدين من لُبنان عبر مَعبر جديدة يابوس بإشرافٍ روسيٍّ قَبل بِضعَة أيّامٍ، حيثُ فُوجِئ هؤلاء باستقبالٍ حافِلٍ ورعايةٍ طبيّةٍ، وتَوزيع وَجَبات طعامٍ وشَراب، وحتى بِطاقات الهاتف الخِليَويّ المَجّانيّة.
على الحُدود الأُردنيّة السوريّة تجمّع أكثَر من 50 عائِلة تُريد العَودة إلى الوَطن، ولكن السُّلطات الأُردنيّة منعت مُرورها عَبر معبَر جابر نصيب، بسبب العمليّة الإرهابيٍة في الفحيص وبَعدها في السَّلط، حيثُ جَرى إغلاق هذا المَعبر لأسبابٍ أمنيّةٍ، لكن جَرى تَحويل هؤلاء إلى المِنطَقة الحُرّة للمُرور كمَعبرٍ بَديل.
السُّوريّون من الشُّعوب العَربيّة القليلة التي تُفَضِّل دائمًا العَيش على تُراب وَطَنِها لأسبابٍ عاطفيّةٍ ووطنيّة، ولأنّ هذا الوطن، ورغم الظُّروف الصَّعبة التي مَرّ فيها، والإجراءات الأمنيّة القاسِية في بَعضِ الأحيان، وفٍر الحياة الكَريمة، أو الحَد الأدنَى مِنها، فما زالت المَشافي السوريّة تتمتّع بمُستوىً عالٍ مِن الخدمات الطبيّة المجانيّة، وبإشرافِ نُخبَةٍ عاليةِ الكَفاءة من الأطبّاء والمُمرِّضين، والشَّيء نفسه يُقال أيضًا عن باقِي الخَدمات الأُخرى من تَعليمٍ ومِياه وكَهرباء رغم سَنوات الحَرب المُؤلِمة، فاللَّيرة السُّوريّة انخَفضت ولكنّها لم تَشهَد انهياراتٍ دراماتيكيّة، كما أنّ الأسعار ما زالَت معقولةً ولم تَرتفِع بالمُعَدَّلات الكَبيرة مِثلَما هو حاصِل في عَواصِم عربيّة عديدة لا تَشهَد حُروبًا، بل دُخول نفطيّة ضَخمة، على حَد وَصف أحَد الزُّمَلاء الصِّحافيين العائِدين مِن دِمشق قبل أيّام، وتَعرّض لحادِث صحّي طارِئ اضطرّه للعِلاج في أحَد المُستشفيات العامّة، ومجّانًا، وهو غَير السُّوري.
طريق سورية إلى التَّعافي التَّام سَتكون حافِلةً بالمَطبّات دُون أدنى شَك، لكنّه رِحلَة الألف مِيل بدأت، وبِعَشرات الخَطوات، وهناك إرادة قويّة بالتَّسريع فيها، من قِبَل الشَّعب والحُكومة معًا، وحَديث ذو نَبرةٍ مُتصاعِدةٍ حول التَّسامُح والتَّعايُش، وبِدء صَفحةٍ جَديدة.
حي السَّفارات الأجنبيّة في العاصِمة السوريّة يَشهَد أيضًا حَركةً نَشِطَةً ومَلحوظةً، لإزالَة الغُبار، ودَهن الواجِهات، وإصلاح بعض ما تعرّض للخَراب، أو التآكل، ممّا يعني أنّ عودَة الكثير مِنها للعَمل باتَ وَشيكًا في ظِل عَودَة الأمن، واستعادَة الجيش العربيّ السوريّ لمُعظَم المُدن والمَناطِق لسِيادَة الدَّولة.
من كان يُصَدِّق افتتاح خَط حافِلات برّي يَربِط العاصِمة السعوديّة الرياض بدِمشق بعد سَبع سنوات من حَربٍ عُنوانها إسقاط النِّظام؟ ومن كان يَتوقَّع تَوقُّف الحَمَلات الإعلاميّة في مُعظَم القنوات الخليجيّة التي كانت مُتخَصِّصة في التَّحريض ضِد الدولة السوريّة؟
اليوم خَط حافلات برّي، وغَدًا قَطعًا ستعود الطائرات إلى مَطار دِمشق الدولي مُحَمَّلة بآلافِ العائِدين والزائرين من مُختَلف المَنافِي ومَواطَن الشَّتات.
سورية تتعافَى، قُلناها في هذا المَكان ونُكَرِّرها، ولا يُضيرنا ذلك، فهِي كانَت وستَظل مركز إشعاع حَضاريًّا.. اليَوم وتيرَة عَودة اللاجئين بَطيئة والسَّبب حجم الدَّمار.. ولكنّها ستتسارع غَدًا وبعد غَد، فمَعركة إعادة الإعمار باتَت وشيكة، وتُوضَع على قِمّة سُلَّم الأولويّات، فليس هُناك أجمل من العَودة إلى الوطن، خاصَّةً إذا تَخلَّص هذا الوَطن من الكَثير من سَلبيّات الماضي، وفتح ذراعيه لجَميع أبنائه، دُونَ تَفرِقةٍ، أو تمييز، على أرضيّة التسامح والتعايش والمُساواة، وبِناء جُسور المحبّة والغُفران، والتَّطلُّع إلى مُستَقبل أكثَر إشراقًا، وليسَ هذا بكَثير على سورية الحَضارة التي تَمتَد جُذورها لآلافِ السَّنوات.
“رأي اليوم”