سورية:تحوّلات ما بعد الحرب
حياة الحويك عطية
لن يكون ما بعد الحرب السورية كما قبلها. مُعطى يبدو بديهياً للوهلة الأولى. وقد يفهم منه تغيير ما يطرأ على الساحة السورية. لكن الواقع أن الأمر أكبر وأوسع من ذلك.
لن يكون ما بعد الحرب السورية كما قبلها. مُعطى يبدو بديهياً للوهلة الأولى. وقد يفهم منه تغيير ما يطرأ على الساحة السورية. لكن الواقع أن الأمر أكبر وأوسع من ذلك. فهذه الحرب لم تكن سوريّة إلا بقدر ما كانت اقليمية وعالمية. وعليه فإن حسمها بطريقةٍ ما يعني تحوّلات كبرى على هذه الأصعدة جميعاً.
على المستوى الدولي تبدو قراءة التحوّل هي الأسهل، ليس فقط من باب نهاية الأحادية القطبية التي أعلن بوتين بداية نهايتها عام 2007، في فرانكفورت. وإنما من باب التحوّل الأيديولوجي في السياسة الدولية، حيث سار كل طرف ليلاقي الآخر في منتصف الطريق. فلا الاشتراكيين العالميين ظلوا على حالهم، ولا النيوليبراليين العولميين ظلوا على حالهم، روسيا تخلّت عن الشيوعية باتجاه نظام رأسمالي قومي إلى أن كرّس نجاح دونالد ترامب تخلّي الولايات المتحدة عن العولمة للعودة إلى حمائية رأسمالية قومية.
ما بين العملاقين مجموعة أوروبية منها كتلة كانت اشتراكية وتحوّلت بردّة فعل حادّة إلى الليبرالية المُنبهرة بالأمركة، ومنها كتلة غربية اعتقدت أنها ربحت رهانها ضد الشرق، ولم تدر إنها خسرت رهان الاستقلالية لصالح التبعية الأميركية. في سائر العالم دول ذات نموذج مختلف سحقت، كما العراق ( من دون إغفال الأسباب الأخرى) ودول أمسكت العصاة من النصف من مثل الصين التي برمجت تحوّلها التدريجي في نموذج كان راؤول كاسترو من أشد المعجبين به. ودول أوجدت نموذجها الخاص كالنمور الآسيوية.
فهل نحن في عصر نظام عالمي جديد لا تتّحدد جدّته فقط بالعودة من أحادية القطب إلى تعدّدية الأقطاب، وإنما تتحدّد أكثر بالعودة إلى الرأسمالية القومية الحمائية
سؤال يُحيل إلى قراءة مصالح الشركات متعدّدة الجنسيات، كما مصالح الدول القومية. كما يُحيل إلى سؤال ثان العدالة الاجتماعية في ظل أنظمة رأسمالية، حيث يعوّض المواطن بالتأمينات الاجتماعية عن الاشتراكية التقليدية. وإلى سؤال ثالث وخطير حول مسألة الفساد التي تحتاج إلى منظومة معقّدة من آليات المحاسبة كي لا تأكل الأخضر واليابس.
أسئلة تتعزّز أكثر في منطقتنا مع كون عنوان المرحلة القادمة في منطقتنا هو : إعادة الإعمار. سواء في سوريا أو في اليمن أو في ليبيا أو في العراق وحتى في إيران ما بعد الحصار.
أول الإشكاليات الوجودية التي تقف أمام جميع الأسئلة هي إشكالية الإنتاج، فدولة مُنتجة كالصين تجد نفسها – وهي الاشتراكية – تدافع في دافوس عن العولمة، لأنها وببساطة تحتاج الأسواق التي يؤمنها لمنتجاتها هذا النظام. ودولة مُنتجة كالولايات المتحدة، تتخلّى عن العولمة لأن النتاج الصيني يضرب إنتاجها في عقر أسواقها. كما أن إمكانيات التوطين الآسيوية لصناعاتها تضرب صناعاتها وفرص العمالة لديها. كذلك فإن خفض أو إلغاء الرسوم الجمركية يفقد خزينتها تدفّقاً كبيراً لعائداتها.
قضية الإنتاج تلتحم بقضية العدالة الاجتماعية، لأن هذه العدالة لا تكون بتوزيع الفقر وإنما بتوزيع الغنى. ولا تستطيع الدولة تأمينها إلا إذا كانت على قدرٍ ما من الثروة المُنتجة.
أما الفساد فيحيل إلى قضية سياسية بديهية تكمن في مبدأ تداول السلطة واستقرار آليات المحاسبة واستقلالية القضاء.
وبالتركيز على منطقتنا. نجد أننا دخلنا مرحلة تصفية الحروب التي بدأت في لبنان وقد تنتهي في اليمن، إذ بدأت إرهاصات حل يمني تلوح مع اتضّاح نهاية الليل السوري. حيث معركة الجنوب في طريقها إلى الحسم ، ومعركة الشمال تبدو قاب قوسين من الإطلاق.
ولا يمكن للمراقب إلا وأن ينتبه إلى أن هذا التدحرج لم يتبلور إلا بعد لقاء بوتين – ترامب. كما أنه قد ترافق مع رفع منسوب الضغط الأميركي على كل من إيران وتركيا ، وبالمقابل ارتفاع منسوب الضغط السلبي الروسي على إسرائيل ( والمقصود بالضغط السلبي فشل جميع الزيارات المكوكية الإسرائيلية إلى روسيا في تحقيق أي هدف) .
تطوّرات إذا ما قرأناها قراءة جيوسياسية، لوجدنا أن منطقة الشرق الأوسط قد تشكّلت تاريخياً من ثلاث بيئات : البيئة التركية (عثمانية أو بيزنطية) ، البيئة الإيرانية ( فارسية أو ساسانية أو إيرانية) والبيئة العربية بمكوّناتها الثلاثة: سورية الطبيعية، وادي النيل والجزيرة العربية. وقد أضاف إليها الاحتلال والاغتصاب في القرن المنصرم القوة الإسرائيلية، فاذا هي أربع.
البيئة العربية بمكوّناتها الثلاثة ضربت: خنقت مصر والسودان سياسياً واقتصادياً وحتى جغرافياً، وضعت الجزيرة العربية وأموالها في العبودية ، أما سورية الطبيعية فدُمّرت كياناً إثر الآخر.
بالمقابل ظلّت تركيا تصعد، ولو على دماء العرب وأشلاء بلادهم ، وظّلت إسرائيل تصعد بدعم أميركي أوروبي منقطع، وتمكّنت إيران المُحاصَرة من بلوغ النووي والنانو وجر العالم إلى اتفاق سيفتح أمامها أبواباً أوسع.
كلها باستثناء تركيا بحاجة إلى الإعمار وبحاجة إلى الشركات المتعددة الجنسيات، وبحاجة إلى الدول العملاقة التي حوّلت منافساتها عليها إلى حروب تدمير ذاتي على أرضها. حروب حوّلتها إلى سوق عريض فاغراً فاهه بعد أن فقد، بضرب الإنتاجية، مزوّده المحلي.
لن يترك هذا السوق لتركيا كما وعدت نفسها وهي تغذّي الموت والنهب في سوريا وتحتل شمالها لتُقايض عليه. ولن يترك هذا السوق لإيران التي تمكّنت من تحقيق حضور اقليمي ينافس حضور القوى العظمى وفي يدها اتفاق نووي يفتح أمامها كل أبواب المستقبل بما فيه التكنولوجي ، سلاح العصر القادم. وبالمقابل لا يمكن إطلاق يد إسرائيل في كل ما تحلم به وتحويلها إلى قوّة اقليمية ذات ظهير عالمي لا يستهين به إلا مَن يجهله. وطبيعي أن كلاً من بوتين وترامب يعرفانه تماماً.
ما يحصل اليوم هو عملية تقليم أظافر للقوى الاقليمية الثلاث بعد أن أصبح العرب بلا أظافر. وإلى أن تنبت لهم جديدة تكون مرحلة إعادة الإعمار قد صبّت في حساب مصالح مَن يمسك نواصي العالم. فهل يمكن لنا أن نتخيّل أن كل الدمار قد حصل لأجل هذا؟
الميادين