السبت , نوفمبر 23 2024

أميركا في شرق الفرات وتركيا في شماله.. السيناريوهات المحتملة

أميركا في شرق الفرات وتركيا في شماله.. السيناريوهات المحتملة

حسني محلي

يبدأ الحديث هنا عن احتمالات المواجهات الساخنة القريبة (كحد أقصى في أيلول/سبتمبر القادم) سياسياً وعسكرياً ونفسياً بين موسكو وأنقرة، وبالتالي بين كل الأطراف الإقليمية والدولية، ولكل حساباتها المعقدة في المنطقة.

في ظل غياب الاهتمام الإعلامي العربيّ والدّوليّ، بل والتركيّ، عن تطورات شرق الفرات، تسعى واشنطن إلى تطبيق ما تبقّى من مشروعها الإقليمي الذي يهدف بالدرجة الأولى والأخيرة إلى ضمان أمن “إسرائيل” إلى الأبد. وأياً كان الهدف العربي من “صفقة القرن” الّتي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 28 كانون الثاني/يناير الماضي، أي جرّ أنظمة الخليج إلى المصالحة مع تل أبيب، فإنّ الهدف الأكثر أهمية بالنّسبة إلى الكيان الاستيطانيّ هو مياه دجلة والفرات، من دون أن ينسى النيل، عبر التحالف مع إثيوبيا ودول أفريقية تقع فيها منابع النهر المذكور.

وهنا، يكتسب التواجد الأميركي شرق الفرات، المدعوم من بعض الدول الأوروبية، أهميته الإضافية، لأن فيه الكثير من المعطيات التي ستساعد واشنطن على تحقيق أهدافها في المنطقة، أي الدول الأربعة التي يعيش الكرد فيها تركيا والعراق وإيران وتركيا، وذلك مع اقتراب الذكرى المئوية لاتفاقية سيفر (آب/أغسطس 1920)، التي منحت الكرد دولة مستقلة في المنطقة.

ومع قيام الجمهورية التركية في العام 1923، ورفض أنقرة للاتفاقية، رجَّحت الدول الاستعمارية آنذاك (فرنسا وبريطانيا) الاهتمام بوعدي بلفور وسايكس بيكو، اللذين أوصلا المنطقة إلى ما وصلت إليه من صراعات عرقية وطائفية دمرت دولها وشعوبها طيلة السنوات المئة الماضية. وخدم ذلك دائماً “إسرائيل” فقط، والتي قامت على التراب الفلسطيني، وحققت معظم أهدافها حتى الآن، بما في ذلك ضم القدس والجولان، وقريباً الضفة الغربية.

وتكتسب تطورات شرق الفرات أهمية إضافية بسبب تعقيدات الوضع هناك، بعد أن نجحت واشطن، وبشتى وسائلها المعروفة، في إقناع الأحزاب والفصائل الكردية في المنطقة أو إجبارها على توحيد صفوفها والعمل معاً من أجل إقامة كيانها المستقل قبل تطبيق العقوبات الأميركية الجديدة (قانون سيزر) على سوريا أواسط الشهر الجاري.

ولم تهمل واشنطن حليفها التقليدي مسعود البرزاني، الَّذي لم يعد يعادي وحدات حماية الشعب الكردية، وهي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، ما دام البيت الأبيض هو الضامن الأساسي لقيام الكيان الكردي المستقل في المنطقة بدولها الأربعة العراق وتركيا وسوريا وإيران.

ويفسر ذلك المشاكل والتعقيدات التي تعاني منها هذه الدول داخلياً، مع استمرار خلافاتها المعلنة وغير المعلنة في ما بينها. ويبدأ الحديث هنا عن قنوات للحوار بين أنقرة وكرد سوريا، وكالعادة عبر الوسيط الأميركي، أي ترامب، الذي سبق له أن هدد علناً، وبشكل صريح، بتدمير تركيا والرئيس إردوغان في حال الاعتداء على كرد سوريا.

وتجاهل إردوغان هذه التهديدات والإهانات، واكتفى بإرسال قواته إلى شرق الفرات في 9 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بالاتفاق المسبق مع ترامب الَّذي نسّق بدوره مع الرئيس بوتين للسماح للجيش التركي بالانتشار في المنطقة من تل أبيض إلى رأس العين، أي بعرض حوالى 110 كم من أصل حوالى 500 كم، وهي الحدود السورية مع تركيا شرق الفرات.

وتعتقد أنقرة أنَّ هذه المنطقة، وهي بعمق يتراوح بين 15-20 كم، ستساعدها، وبدعم من مسلّحي فصائل ما يسمى بالجيش الوطني السوري، على منع وحدات حماية الشعب الكردية من القيام بأي عمل عدواني ضد تركيا مستقبلاً. ويرى البعض في هذا التواجد التركي العسكري شرق الفرات، كما هو الحال في غرب الفرات، ورقة مهمة يساوم بها إردوغان الرئيس بوتين، الذي أضاء الضوء الأخضر للجيش التركي غرب الفرات (آب/أغسطس 2016) وشرقه، من دون أن يتسنّى له الآن إقناع إردوغان بالخروج منها قبل الاعتراف لأنقرة بدور “المقرر الرئيسي” لمستقبل سوريا ومصيرها داخلياً وإقليمياً.

وتتحدّث بعض الأوساط هنا عن صفقة محتملة سيقدم خلالها ترامب مساعدات مالية لتركيا، كما سيدعم إردوغان سياسياً في إدلب وسوريا عموماً، مقابل الأخير لتطورات الوضع شرق الفرات، ما دامت أنقرة سعت مع بداية “الربيع العربي” وحتى أواسط العام 2015، لإقناع قيادات حزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني (صالح مسلم) بضرورة التمرد ضد دمشق مقابل الحصول على ما يريده الكرد في سوريا “الجديدة”!

ودفع ذلك أنقرة آنذاك إلى اختيار الكردي عبد الباسط سيداً رئيساً للمجلس الوطني السوري المعارض (بعد برهان غليون)، كما اختارت الكردي غسان هيتو، “المستورد من أميركا”، كرئيس للحكومة المؤقتة، ومقرها إسطنبول، ليساعد ذلك أحمد داوود أوغلو، وبدعم من مسعود البرزاني، في مساعيه لكسب كرد سوريا إلى جانب تركيا، وهو التكتيك الذي لجأ إليه الرئيس الراحل تورغوت أوزال في العراق بعد هزيمة صدام حسين في الكويت، عندما أراد أن يضم الشمال العراقي إلى تركيا، وبرضا مسعود البرزاني، إلا أن الجيش التركي رفض ذلك آنذاك.

وبدأ الحديث من جديد عن سيناريوهات مثيرة، ومنها “تجاهل” أنقرة مساعي واشنطن لإقامة الكيان الكردي، ما دام هذا المشروع سيضمن أولاً بقاء القوات التركية في شرق الفرات، وبالتالي سيكون حجة ومبرراً لترسيخ التواجد التركي العسكري غرب الفرات من جرابلس إلى إدلب، أي على طول الحدود السورية مع تركيا، وذلك بحجة ضمان حقوق التركمان في المنطقة وحمايتها.

وتتحدَّث السيناريوهات أيضاً عن حسابات تركية على المدى المتوسط والبعيد من أجل تركمان العراق، ومشكلتهم أن نصفهم من السنّة، والآخرين من الشيعة المتعاطفين مع إيران. وهنا، تلتقي أهداف أنقرة مع واشنطن التي تسعى إلى الحد من النفوذ الإيراني في العراق، ومنع امتداده إلى سوريا، ومنها إلى لبنان، حيث حزب الله، مصدر الخوف الرئيسي لـ”إسرائيل”، حليف واشنطن الاستراتيجي في المنطقة.

وكتب القائم بالأعمال الإسرائيلي في أنقرة، روي جيلاد، في أحد المواقع الإخبارية الأسبوع الماضي: “الميليشيات الموالية لإيران تقاتل ضد المعارضين الذين تدعمهم تركيا، والتواجد الإيراني في سوريا يتعارض مع المصالح التركية هناك. لذا، إن إسرائيل، المنافس الحقيقي لإيران في المنطقة، تستطيع أن تتعاون مع تركيا ضد هذا العدوّ المشترك”.

ويعود الحديث من جديد عن أهداف التآمر الدولي والإقليمي على سوريا منذ بداية ما يسمى “الربيع العربي”، الذي أرادت له أنظمة المنطقة أن يدمر سوريا. وبتدميرها، يكون التآمر على العراق أسهل بكثير، لتضرب “إسرائيل” عصفورين بحجر واحد.

وتكتسب أحداث العراق ولبنان الداخلية والحصار الاستعماري لإيران أهمية إضافية، لتوقيتها الزمني، لا بسبب الحسابات أعلاه فحسب، بل أيضاً لدعم المخططات الأميركية التي تهدف إلى السيطرة على المنطقة بأكملها، في إطار ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، والهدف منه إيصال الإسلاميين إلى السلطة، ليساهموا في خدمة المشروع الإمبريالي الصهيوني بشكلٍ مباشر أو غير مباشر أو بعلم ومن دونه.

ويبقى الحساب الأهم بالنسبة إلى أميركا، هو منع العدو التقليدي روسيا من النزول إلى المياه الدافئة أو الوصول إليها براً وجواً عبر إيران، فالعراق، ثم سوريا. ويكتسب الحوار التركي – الأميركي، العلني منه والسري، أهمية إضافية بسبب الموقع الجغرافي التركي الهام، حيث تسيطر أنقرة على مضيقي البوسفور والدردنيل، وتطل على البحر الأسود المهم جداً بالنسبة إلى روسيا.

ويبدو أن موسكو تعيش داخلياً تناقضات الموقف الرسمي في سوريا، وخصوصاً تجاه الرئيس بشار الأسد، الذي يعرف الجميع أنه لولاه، لما كانت روسيا الآن في الوضع الذي هي عليه الآن إقليمياً ودولياً، بل داخلياً أيضاً، فالجميع يتحدّث عن استمرار الصراعات داخل أجنحة السلطة، أي الجناح السوفياتي التقليدي (مع دمشق)، والجناح الليبرالي (يسعى إلى المصالحة مع الغرب)، والجناح الأوراسي المتذبذب (مع التحالف مع أنقرة)، وكل مؤثر في مواقع القرار الروسي.

ويتوقّع الكثيرون أن يكون هناك قرار روسي قبل أيلول/سبتمبر القادم حيال مجمل القضايا المطروحة للنقاش، وأهمها مستقبل سوريا، مروراً بإدلب وشرق الفرات، سواء بالخلاف أو الاتفاق مع إردوغان، فالمعروف عن الروس، وعبر التاريخ، أنهم يرجحون التعامل مع الأقوياء ليكون الصراع صراع الندّ بالند!

ويقول الشاعر الروسي فيودور إيفانوفيتش تيوتجيف:

“لا يمكن أن تفهم روسيا بالمنطق

فروسيا لا تقاس بالأمتار

لها خصوصية مميزة

روسيا يجب أن يُؤمَن بها فقط”.

وإذا صدقت مقولات وأبيات الشاعر تيوتجيف، فعلى الرئيس بوتين أن يكون أكثر حسماً في الخارج، كما هو في الداخل، وهذا يعني أن يحسم مجمل حساباته مع الرئيس إردوغان بشكل أو بآخر، ليكون ذلك الوسيلة الوحيدة لضمان المصالح الروسية في سوريا ولبنان وإيران والعراق، ومن خلالها يستطيع أن يتحدى الجميع في المنطقة والعالم، وهو ما أثبتته طهران بإرسال ناقلات النفط إلى فنزويلا، رغم التهديدات الأميركية التي فشلت، بسبب موقف قوى المقاومة والتصدي الذي أثبت صمودها، فانهارت الغطرسة الأميركية رغم كثرة المعجبين بها.

ويبدأ الحديث هنا عن احتمالات المواجهات الساخنة القريبة (كحد أقصى في أيلول/سبتمبر القادم) سياسياً وعسكرياً ونفسياً بين موسكو وأنقرة، وبالتالي بين كل الأطراف الإقليمية والدولية، ولكل حساباتها المعقدة في المنطقة، بعد أن بات واضحاً أن أنقرة لا ولن تتراجع عن حساباتها الحالية، ما دام الرئيس إردوغان يعتقد أن ظروف المنطقة ومعطياتها لصالحه، بسبب انشغال الغرب بأزمة كورونا وتدهور اقتصاديات الدول، وأخيراً المغامرات المحتملة للرئيس ترامب بعد الانتفاضة الشعبية التي سبقت الانتخابات الرئاسية.

ويريد الرئيس إردوغان أن يستبق هذه التطورات بانتصاراته في ليبيا وسوريا وأماكن أخرى، وما عليه في هذه الحالة إلا أن يستعد للثمن الذي سيدفعه مقابل كل هذه الانتصارات، وإلا لما تحدث، وباستمرار، عن ذكريات الفتوحات العثمانية في المنطقة العربية، ولما تذرّع بمليون شخص من الأصول التركية من بقايا الحكم العثماني في ليبيا.

كما سبق أن تحدّث عن مثل هؤلاء في سوريا والعراق، ولم يتذكر أن بقايا الحكم العثماني في اليونان وبلغاريا أقرب بكثير من البقايا في ليبيا؛ بوابة الانفتاح التركي على الشمال الأفريقي، وهي ساحة مهمة لتضييق الحصار على عبدالفتاح السيسي في مصر عبر دعم الإخوان فيها.

ولهذه الأسباب، لن ينسحب إردوغان من ليبيا وسوريا وقطر والصومال، كما لم تنسحب تركيا من قبرص، على الرغم من كل القرارات الدولية والأميركية والأوروبية، ومنذ 46 عاماً، وربما يريد إردوغان لهذا الواقع أن يتكرر أولاً في سوريا ثم في العراق، ولاحقاً في ليبيا، وبعد ذلك في الصومال وقطر ودول وأماكن أخرى.. لمَ لا!؟

الميادين