هل انتصر الجولاني على الظواهري في إدلب؟
عبد الله سليمان علي
للمرّة الثانية يضطر أيمن الظواهري إلى تجرّع طعم النكسة منذ أن قرّر التدخل في الساحة الشاميّة، وذلك بعد النكسة الأولى التي مني بها على يد تابعه السابق أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم “الدولة الاسلامية” الراحل، الذي آثر الانشقاق عنه وتأسيس خلافته على أنقاض علاقته الملتبسة مع تنظيم “القاعدة”.
وتدلّ تجربة الظواهري في أرض الشام، على بعض المعطيات الهامة، منها: تراخي قبضته في إدارة القيادة المركزية لتنظيم “القاعدة”، وعدم امتلاكه كاريزما القيادة التي من شأنها شدّ الفروع إلى المركز، وكذلك سوء قراءته للواقع ومعطياته بحيث كان دائماً يقع في مطبات ساهم هو نفسه في وضعها في طريقه.
وقد يكون أبلغ مثال على ما سبق، هو الدور الذي لعبه الظواهري في الحفاظ على الجولاني وما بقي من جماعته عندما قرر أبو بكر البغدادي في شهر نيسان/أبريل من العام 2013 إحالته على التقاعد من خلال قراره دمج تنظيم “دولة العراق الاسلامية” مع “جبهة النصرة” ضمن تشكيل واحد “دولة الاسلام في العراق والشام” بزعامته شخصياً.
فقد تدخّل الظواهري بكل ثقله من أجل حلّ الخلاف بين الجولاني والبغدادي لمصلحة الأول منهما، متدرجاً في ذلك من حكم تسووي، لم ينفذ على أرض الواقع، يعطي الجولاني إمارة الشام والبغدادي إمارة العراق، مروراً بقطع علاقة “القاعدة” مع تنظيم “دولة العراق الاسلامية” في خطوة مثلت أقصى الضغط الذي كان يمكن للظواهري ممارسته آنذاك متوخياً منه إخلاء مسؤوليته عن تصرفات البغدادي من جهة، وآملاً في أن يدفع ذلك البغدادي إلى التراجع والانضواء مجدداً تحت جناح زعامة الظواهري أو على الأقل دفع مجموعات وازنة من تنظيمه للانشقاق عنه لمصلحة “القاعدة”.
وعندما أخفقت هذه المساعي جميعها لم يعد هناك إلا خيار واحد هو الوقوف إلى جانب الجولاني علناً وعلى الملأ في “حرب الإلغاء” التي اندلعت بين الطرفين. وكان هدف الظواهري من ذلك، منع البغدادي من التفرّد بالساحة الشامية وحرمان القاعدة من موطئ القدم هناك، مع الأخذ بالاعتبار ما للشام من طابع ميثولوجي في مخيال الجماعات الجهادية يدفعها للتمسك بأي دور على أراضيها.
والمفارقة أنه بينما كان الظواهري يشحذ أسنانه لقطف ثمار هزيمة تنظيم “داعش”، ممنّياً نفسه بفرصة غير مسبوقة لاستعادة مجد تنظيمه الآفل من خلال قوة فرعه في سوريا، جاءت صدمته من حيث لم يكن يتوقّع، فإذ بمُبايعه الجولاني يخطو الخطوات الأولى نحو الانقلاب عليه وعلى تنظيمه (“القاعدة”) ممهداً لذلك من خلال سلسلة من المراجعات والتحولات التي لعب الجولاني خلالها على مختلف الأطراف ببراعة وحنكة لتمويه أهدافه الحقيقية ومنع أي طرف من تطويقه وحصره في زاوية ضيقة.
جاءت تحولات الجولاني الأولى عام 2016 عندما قرر تشكيل “جبهة فتح الشام” في وقت كان فيه خمسة من أعضاء مجلس شورى “القاعدة” متواجدين على أرض الشام، في دلالة على الأهمية الكبيرة التي يوليها التنظيم لهذه الساحة وإمكان اتخاذها بمثابة المعقل الأول لبنيته القيادية. لكن الالتباس الذي تعمد الجولاني ممارسته لتمويه خطوته تلك، ساهم في دفع قيادة “القاعدة” على عدم إيقافها أو على الأقل عدم الاعتراض عليها علناً بالرغم مما تركته من شكوك لدى قيادات معتبرة.
وكان لافتاً أن الجولاني لم يقرر القيام بتحوله الثاني إلى “هيئة تحرير الشام” عام 2018، متحالفاً مع فصائل لا تنتهج نهج “القاعدة” إلا بعد تمكنّه من التلاعب بنائب الظواهري أبو الخير المصري ودفعه إلى نشر صوتية يعطي فيها الضوء الأخضر والشرعية الرسمية لتبرير التحول. وفوق كل ذلك ظهر الجولاني لإعلان التحول وإلى جانبه قيادي رفيع في تنظيم “القاعدة” هو أبو الفرج المصري. وإذ عكست الخطوة حينها حرص الجولاني على التدثّر بغطاء “القاعدة” لما يمثله من شرعية جهادية، فإنها في الوقت نفسه عكست مدى قدرته على التلاعب برؤوس قيادات التنظيم وإقناعهم بخطواته.
وقد سبق لأبي محمد العدناني المتحدث الأسبق باسم تنظيم “الدولة الاسلامية” أن حذّر الظواهري من نوايا الجولاني وقدرته على التلاعب به حيث قال في كلمة صوتية بعنوان “عذراً أمير القاعدة” صدرت في شهر أيار/مايو من عام 2014 موجهاً الكلام للظواهري: “جعلت من نفسك وقاعدتك أضحوكة ولعبة بيد صبي غر خائن ناكر ناكث للبيعة لم تره. وتركته يلعب بكم لعب الطفل بالكرة”.
طائرات الدرونز الأميركية اصطادت أعضاء “جماعة خراسان” وهم الأشد قرباً من “القاعدة” واحداً تلو الآخر معززة بقصد أو من دون قصد زعامة الجولاني
لكن المشهد انتقل بسرعة من “لعب الطفل بالكرة” إلى حلبة المصارعة والدماء، حيث كانت طائرات الدرونز الأميركية تصطاد أعضاء “جماعة خراسان” وهم الأشد قرباً من “القاعدة” واحداً تلو الآخر معززة بقصد أو من دون قصد زعامة الجولاني وتاركة الظواهري من دون أوراق قوة على الأرض. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تستهدف هذه الطائرات كلاً من أبي الخير المصري وأبي الفرج المصري، وذلك في الوقت الذي كانت الأصوات بدأت تعلو داخل تنظيم “القاعدة” حول الجولاني وتوجهاته، وكانت ثمة مساعٍ لرفع غطاء “القاعدة” عن تحوله الأخير ولا سيما من قبل أبي الخير الذي شعر بمدى خداع الأول له، وسعى لإصلاح الأمر لكن الطائرة الأميركية اصطادته قبل أن يتمكن من ذلك.
انكشاف تحايلات الجولاني لا سيما من قبل المنظر الجهادي أبي محمد المقدسي أردني الجنسية، والشكوك التي حامت حول دور الجولاني وجهازه الأمني في الوقوع السهل لقيادات “خراسان” و”القاعدة” ضحايا لطائرات درونز الأميركية، ووقوف سيف العدل المصري، وهو قيادي بارز في القاعدة وعضو مجلس شورى، ضد تحولات الجولاني وإصراره على أن تنال رضا القيادة المركزية للتنظيم، جميع هذه العوامل ساهمت في تعميق الخلافات بين الطرفين والتي وصلت في مرحلتها الأولى إلى إنشاء تنظيم “حراس الدين” أواخر العام 2018 لاستيعاب معظم القيادات والمقاتلين الذين تمسكوا ببيعتهم لتنظيم “القاعدة” وزعيمه الظواهري.
غير أن الجولاني كان قد اكتسب خبرة واسعة في أساليب تنظيم “القاعدة” وكيفية إدارته لمثل هذه الخلافات ووسائل مواجهته لها على الأصعدة كافة، وذلك من خلال تجربته السابقة ضد البغدادي والذي دعمه فيها تنظيم “القاعدة” بكل ما أوتي من قوة. لذلك كان الجولاني في خلافه مع “حراس الدين” كمن يسير في منطقة يحفظ خريطتها عن ظهر قلب. وبالتالي لم يكن من المفاجئ لأي مراقب أن تفضي الأمور إلى نجاح الجولاني في تفكيك غرفة عمليات “فاثبتوا” وتكريس نفسه زعيماً أوحد لمنطقة خفض التصعيد في إدلب.
وقد تولى الأدريسي وهو شرعي بارز في “هيئة تحرير الشام” التعبير عن الانقلاب الذي حصل بقوله في تغريدة على حسابه على “تويتر”: “إنني مع أن تنسحب القاعدة من الشام انسحاب بطل مقدامٍ ولّى عهده وأفل مجده ليخرج من باب الأكابر لا من باب غير المأسوف عليهم والأصاغر”.
وتبدّى ذلك أيضاً من خلال إقرار أبي محمد المقدسي الذي يعتبر المرجعية الأولى لتنظيم “حراس الدين” وبالأخص الجناح الأردني الذي يهمين عليه عملياً، بعدم جدوى القيام بأية محاولة لقيام “سوق حقيقية للجهاد في ما تبقى من المحرر” حيث كان يرى أن ذلك يحتاج إلى طريقتين هما “استئصال الفصائل العميلة” و”جرف الفصائل المُسْتعملَة” حسب تعبيره.
لكن بما أن ذلك لم يعد ممكناً ولا يوجد في الساحة من هو قادر عليه، لذلك لم يبق سوى حل وحيد. هذا الحل هو “إعلان حَلّ فصائلهم وتركهم لمسمياتهم (يقصد الجماعات المحسوبة على القاعدة والمنضوية ضمن غرفة فاثبتوا)، والكمون والتربص تجنبا للاستئصال الذي يُخَطّط لهم؛ وعدم بعثرة الجهود في غرف تفرضها عليهم الجماعات العميلة أو المستعملة؛ ما دامت هذه الجماعات أقوى منهم وتمنعهم بالقوة والتغلب والاعتقال والقتال؛ مِن الاجتماع بغرفهم الطيبة ذات الرايات والغايات النظيفة”.
ويعدّ هذا إقراراً نهائياً من المقدسي بأن خيار الحلّ هو الأفضل لمواجهة الجولاني وهيمنته على الساحة، وبالتالي يبدو أقرب إلى خيار خصمه الأدريسي المتمثل بإنهاء تنظيم “القاعدة” في الشام ولو إلى حين، ريثما تتغير الأمور.
وقد تزامن إقرار المقدسي مع إقدامه على خطوة لافتة يمكن أن يفهم منها وجود مساعٍ له للتقريب بين جناح البنعلي في تنظيم “داعش” وجماعات “القاعدة” في إدلب، حيث قام بنشر مقاطع صوتية للشرعي تركي البنعلي توضح مذهب الأخير في التكفير ومسألة العذر بالجهل وهي المسألة التي أحدثت شرخاً واسعاً في صفوف “داعش” في سوريا وأدت إلى نشوب صراع داخلي بين تيارين هما تيار “الفرقان” نسبة إلى أبي محمد الفرقان وزير الإعلام السابق في “داعش”، الذي قتل بغارة أميركية عام 2016، وتيار البنعلي الذي كان أقل تشدداً من سابقه.
وتتزامن إقرارات المقدسي ومساعيه مع تسريبات حول موقف سيف العدل المصري من تطورات إدلب حيث نُسب إليه قوله “المعركة في سوريا واضحة لكل من لديه خبرة، وسنظل نسجل هزائم سواء كان هناك مشروع اندماج أم لم يكن”، وشدد على أن “الهدف الرئيسي هو القضاء على أي تنظيم يعمل لإعادة الإسلام على أصوله وتركيا وغيرها لن تقبل بغير ذلك”. وأشار إلى أنه “لا بد من إعادة تغيير النظرية العسكرية التي تناسب الوضع وتنجح ضد مؤامرات الأعداء وضد البرنامج التركي الذي انسجمت معه الفصائل” ليختم بالقول أنه “نحن (أي القاعدة) لن نكون رقماً في أي معركة إلا إذا استعدنا قرارنا العسكري ووظفناه بالشكل الصحيح”.
يتبين مما سبق أن اقتراح الحلّ الذي طرحه المقدسي لا يتقاطع بأي شكل من الأشكال مع خيار سيف العدل بخصوص “تغيير النظرية العسكرية”، وأن كلّاً منهما يقود مساع مختلفة عن الآخر لمواجهة تطورات إدلب والخروج منها بأقل خسارة ممكنة.
فهل أنهى الجولاني تنظيم القاعدة في إدلب أم ما جرى لم يكن سوى جولة ستعقبها جولات أخرى من الصراع سيكون من الصعب تحديد نتيجتها في ظل انفتاحها على احتمالات كثيرة وسيناريوهات متعددة بين خيار المقدسي من جهة وخيار المصري من جهة ثانية؟
180 بوست