ما الذي يجعل مدينة فرايبورغ الألمانية تزداد شبابا كلما تقدم بها العمر؟
تحتفل مدينة فرايبورغ الألمانية الرابضة في قلب الغابة السوداء بالقرب من المثلث الحدودي السويسري والفرنسي والألماني، بمرور 900 عام على تأسيسها منذ أن كانت مستوطنة للتجار في القرون الوسطى عام 1120.
ومع ذلك، لا تزال هذه المدينة تنبض بروح الشباب، إذ يقدر عدد الشباب المسجلين في جامعة ألبرت لودفيغ المرموقة بنحو 10 في المئة من سكان المدينة البالغ عددهم 220 ألف نسمة. وتقلد عمدة المدينة، مارتن هورن، منصبه في عام 2018 قبل أن يبلغ 34 عاما.
وبنيت منازل البلدة القديمة الملونة ذات الأطر الخشبية وعُبدت شوارعها الخالية من السيارات بالبلاط منذ عهد قريب نسبيا، بعد أن دمر القصف مبانيها وشوارعها القديمة في خضم الحرب العالمية الثانية. وكل هذ العوامل هيأت الفرص للمدينة لتصبح واحدة من أفضل المدن في ألمانيا، إن لم يكن على مستوى العالم، من حيث جودة المعيشة والانفتاح على التطور والتغيير والأكثر حفاظا على البيئة والأكثر ملاءمة لتنشئة الأطفال.
وبينما تسترجع هذه المدينة تاريخها على مدى 900 عام، قررت أن أزورها لاستكشف كيف أصبحت إحدى مدن المستقبل.
يرى معظم السكان أن عام 1975 مثّل علامة فارقة في تاريخ المدينة. إذ نصب في هذا العام آلاف المحتجين خياما على قطعة أرض مساحتها 30 كيلومترا شمال فرايبورغ في أعماق الغابة السوداء طيلة تسعة أشهر.
ويقول أكسيل ميير، المدير المنتدب لاتحاد حماية البيئة والطبيعة بألمانيا والذي شارك في الاحتجاجات: “استمدت الاحتجاجات سلميتها من روح التعاون بين المحتجين”. فقد شارك في الاحتجاجات، التي نظمها في البداية بعض سكان المدينة، نشطاء يساريون، ومزارعو الكروم بمنطقة ألزاس الفرنسية ومتزلجون ومزارعون ألمان ومهندسون معماريون وأطباء ومعلمون وصحفيون وعازفون وضباط شرطة، بهدف إيقاف مشروع إنشاء محطة ويل للطاقة النووية.
وبعد تسعة أشهر، توقفت أعمال البناء إيذانا بإلغاء المشروع. وقد مهد هذا الحراك الشعبي الناجح الطريق لمدينة فرايبورغ لتصبح تربة خصبة للأفكار الخلاقة وتمخضت عنه حركة للحفاظ على البيئة. وفي العقود اللاحقة، أصبحت فرايبورغ مركزا للاقتصاد البيئي وأبحاث الطاقة الشمسية.
وتوالت الإنجازات التي حققتها مدينة فرايبورغ في مجال البيئة منذ ذلك الحين. ففي عام 1994، أقيم أول منزل ينتج من الطاقة أكثر مما يستهلك. وفي عام 2002، انتخب ديتر سالومون أول عمدة من حزب الخضر في ألمانيا.
وفازت المدينة في عام 2002، بجائزة دبي الدولية لأفضل ممارسات التنمية المستدامة. وفي عام 2010 فازت بجائزة ألمانية تقديرا لجهودها في حماية البيئة. وبعدها بعامين حازت على لقب المدينة الأكثر استدامة في ألمانيا. وفي عام 2017، أصبح مبنى البلدية الجديد في المدينة أول مبنى إداري عام في العالم ينتج طاقة فائضة.
ودعت المدينة في العام الماضي 25 ألف مسؤول ومخطط عمراني من حول العالم للتعلم من هذه المشروعات الواعدة. وتخطط مدينة ماديسون في ولاية ويسكونسن الأمريكية لإقامة مركز للتنمية المستدامة على غرار مركز الطاقة الشمسية في فرايبورغ.
وزرت محطة الدراجات في مدينة فرايبورغ، وهو مبنى أسطواني ضخم خلف محطة القطارات. وتقول أندريا فيليب، من وكالة أيفوريا للتنمية المستدامة: “أنا لا أملك سيارة ولا أحتاج واحدة، فبإمكانك التنقل بالدراجة في كل مكان في فرايبورغ”.
وتعد المدينة جنة للدراجين، إذ تمتد مسارات الدراجات في المدينة لمسافة 400 كيلومتر، فضلا عن أن الدراجات في شوارعها تفوق السيارات بمقدار الضعف.
وقد صممت شوارع المدينة لتناسب الدراجات منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فبينما ركزت سائر المدن الألمانية آنذاك على وضع السيارات في المقدمة عند إعادة بناء مدنها الحديثة، فقد أعطى مخططو فرايبرغ الأولوية لشبكات النقل العام، واهتموا بتوسيع الشوارع لتستوعب القطارات وخصصوا طرقا للدراجات ومناطق للمشاة.
وفي الوقت الذي اهتمت فيه معظم المدن الألمانية ببناء طرق سريعة واسعة وأماكن انتظار للسيارات، وضعت فرايبورغ أول سياسة للنقل الحضري في عام 1969 مع التركيز على وسائل النقل الصديقة للبيئة.
وبدأنا جولتنا مسترشدين بخريطة المدينة الخضراء التي تعرض جميع مبادرات الحفاظ على البيئة في المدينة، إذ عبرنا جسر ويويليبروك الأزرق البارز وانطلقنا منه إلى سوق المزارعين في ميدان الكاتدرائية، حيث يعرض المزارعون تحت ظلال البرج المبني على الطراز القوطي في القرن الثالث عشر، محصولهم المحلي على 96 طاولة عرض كل صباح.
وبعد أن جربنا النقانق الطويلة الأكثر شعبية في المدينة، غادرنا البلدة القديمة عبر طريق سريع مخصص للدراجات يتسع لـ 15 ألف دراجة يوميا ويمتد على مسافة 10 كيلومترات.
وعندما وصلنا إلى نهر درايزام، أخبرتني فيليب عن مشروع بيئي مصمم خصيصا لتخفيف آثار مشروع تمديد خط للقطارات. وتقول فيليب إنهم يخططون لتوسيع النهر لاستعادة الطيور والحشرات.
وفي أيام مباريات كرة القدم، يسلك المشجعون الطريق السريع المخصص للدراجات المفضي إلى ملعب شوارزوالد، الذي تبلغ سعته 24,000 متفرج، ويعد أول ملعب كرة قدم في ألمانيا يعمل بالطاقة الشمسية. وينتج الملعب 250 ألف كيلواط/ساعة سنويا، لتوفير احتياجاته من الكهرباء، بينما يورد الفائض إلى شبكة توزيع الكهرباء.
ويجري الآن بناء ملعب فرايبورغ وستكون هناك ألواح شمسية على سطحه، ويعيد تدوير الطاقة المتولدة من محطة تصنيع مجاورة لاستخدامها في تدفئة الملعب.
ولمحبي الطبيعة، تعد الغابة السوداء مقصدا للسكان الباحثين عن مراكز ترفيهية في قلب الطبيعة، إذ تضم جبالها الشاهقة مسارات للسير ومتنزهات وحقول زراعية ومسارات لسباق الدراجات الهوائية وحدائق مخصصة لرياض الأطفال تتضمن أكواخا خشبية وسط الأشجار.
ويقول كونستانتين هوفمان، الذي ينحدر من فرايبرغ: “عندما كنت طفلا كانت الروضة تأخذنا في رحلات إلى أقرب غابة، وربما أسهم هذا الارتباط بالطبيعة في سنوات عمري المبكرة في ترسيخ اهتمامي بالبيئة وحرصي على حمايتها”.
وعلى بعد ثلاثة كيلومترات من قلب المدينة، تقع منطقة فوبان الشهيرة، التي تتبنى آراء مشابهة عن الوعي البيئي. ويشيع في هذه المدينة مفهوم البناء الجماعي، إذ يشتري السكان قطعة أرض معا ويبنون شققهم بأنفسهم، بدلا من شراء شقق من شركات خاصة. ويقول هوفمان، إن الناس عندما يبنون مساكنهم بأنفسهم يكونون أكثر حفاظا على البيئة وأكثر مراعاة للجوانب الاجتماعية.
ويعيش سكان فوبان البالغ عددهم 5,500 ساكن في تجمعات مترابطة أو منازل خاصة أو مشروعات إسكان جماعي. وتلتزم جميع المنازل ومشروعات الإسكان بمعايير المباني الموفرة للطاقة في فرايبورغ، وتعتمد على الطاقة المتولدة من أنظمة التدفئة بالكتلة الحيوية في المنطقة.
ويدير سكان المنطقة مبادرات اجتماعية لا حصر لها، مثل إقامة حدائق على أسطح العمارات، ومخازن مشتركة للغذاء، وأجهزة التحلل اللاهوائي للمخلفات العضوية وورش عمل لتسوية الخلافات، ومتاجر تعاونية للمواد الغذائية. وتقول فيليب إن هذه المدينة لا تخلو سوى من شيء واحد وهو السيارات.
ويبلغ نصيب الفرد من السيارات في فوبان 172 سيارة لكل ألف ساكن، مقارنة ب 393 سيارة في فرايبورغ. وصممت الكثير من الشوارع لتتضمن حدائق أطفال في الأماكن التي تخصص عادة لمواقف السيارات.
ويبدو أن امتلاك السيارة في هذه المنطقة قد يثير استهجان المجتمع. وتقول فيليب إنه قد تثار مشاكل بين الجيران إذا أوقف أحدهم سيارته أمام المبنى أو المدرسة لمدة أطول من اللازم أو إذا أخفى عن الآخرين أنه يمتلك سيارة. وقد يخبئ بعضهم سيارته في بلدات مجاورة لتفادي نظرات اللوم والاتهام.
وتضم المدينة أيضا واحدا من أكثر مشروعات التطوير طموحا، وهو أول مبنى سكني شاهق موفر للطاقة في العالم. إذ يستمد هذا المبنى، المكون من 16 طابقا، الحرارة من أجهزة داخلية أو حرارة الجسم أو مصابيح إضاءة، ولا يتضمن أنظمة تدفئة تقليدية.
وأعاد المخططون العمرانيون منذ عشر سنوات تصميم هذا المشروع الإسكاني الضخم ليستوعب 139 وحدة سكنية بدلا من 90، لحل مشكلة نقص المساكن في المدينة. واستطاع المهندسون تخفيض استهلاك الطاقة بنسبة 78 في المئة من خلال أنظمة الإضاءة والمصاعد الموفرة للطاقة ووضع ألواح شمسية ونوافذ من الزجاج العازل، ونظام استرجاع لحرارة العادم.
وراعى المصممون أيضا التماسك الاجتماعي. وتقول فيليب إن السكان في كل طابق لديهم الحق في اختيار الساكن الجديد عن طريق التصويت.
وعلى بعد كيلومترين، يبدو مبنى البلدية الجديد، المضيء والفسيح أقرب إلى مركز التسوق منه إلى المبنى الحكومي. إذ تغطي جدران المبنى من الخارج وحدات كهروضوئية تبلغ مساحتها 4000 كيلومتر مربع. وأصبح المبنى منذ تأسيسه في عام 2017، أول مبنى في العالم يولد طاقة شمسية فائضة، أي أنه ينتج طاقة تفوق احتياجاته من الكهرباء، ويذهب الفائض لتغذية شبكة توزيع الكهرباء.
وأنتجت الألواح الشمسية في المبنى في عامه الأول 560 ميغاواط/ساعة من الكهرباء، ما يعادل الاستهلاك السنوي لنحو 140 أسرة مكونة من أربعة أفراد.
أما عن مستقبل هذه المدينة، فإن عدد المواليد الذين سجلوا هذا العام كان أعلى مقارنة بالعام الماضي، وهذا يعني أن المدينة ستزداد شبابا كلما تقدم بها العمر. وتتطلع المدينة لتخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى النصف في عام 2030 وتوفير 100 في المئة من احتياجاتها من الطاقة من المصادر المتجددة في عام 2050، وهذا يعني أنها تخطو نحو مستقبل أكثر حفاظا على البيئة.
بي بي سي