هكذا حافظت العائلات المالكة الأوروبية على حكمها لقرون
“في هذه المملكة، كما هو معروف جيداً، لا يعتلي الملك العرش برغبات الشعب أو بالانتخاب أو بقانون الحرب، بل بروابط الدم”.. أهم أسباب استمرار العائلات المالكة الأوروبية في العصور الوسطى كتبتها مارغريت دوقة بورغوندي، شقيقة إدوارد الرابع وريتشارد الثالث ملكي إنجلترا بنفسها، في القرن الخامس عشر.
صحيح أنه لا يوجد اليوم سوى عدد قليل من الدول الأوروبية التي يحكمها ملوك أو ملكات، وتحديداً سبعة فقط، إلا أنه في التاريخ الأوروبي الممتد يعد ذلك تطوراً حديثاً لم يُشهد له مثيل، ففي عام 1900 كانت كل الدول الأوروبية -باستثناء فرنسا وسويسرا- ممالك. أما أوروبا العصور الوسطى، فقد كان يحكمها، دون استثناء تقريباً، مزيج من العائلات الملكية والإمبراطورية.
استمرار العائلات المالكة الأوروبية بفضل روابط الدم
كانت السياسة على أعلى مستوياتها بيد أسرة حاكمة، وتدور حول مواليد هذه الأسر وزيجاتها ووفياتها، ناهيك عن صراعاتها وتحالفاتها. ولم يكن انتقال السلطة مسألة انتخابات، بل كان متصلاً بعلم الأحياء.
وقد حقّقت بعض هذه العائلات نجاحاً كبيراً في استمرار نسلها. فكان هيو كابيه، الذي أصبح ملكاً للفرنجة عام 987، الجد الأكبر لسلالة الذكور المباشرة لكل الملوك الفرنسيين حتى عام 1848، أي بعد حوالي تسعة قرون، ولكن لم تستطع عائلات أخرى في العصور الوسطى الوصول إلى هذا المستوى، لكنها غالباً ما استمرت في توارث العرش لعدة قرون.
رغم ذلك، توجد أيضاً أمثلة على ملوك من العصور الوسطى -بعضهم حقق نجاحاً كبيراً- كانوا الوحيدين في أسرهم الذين يعتلون العرش. فمثلاً ملك المجر في الفترة من 1458-1490، ماتياس كورفينوس، كان راعياً عظيماً لثقافة عصر النهضة، لكنه لم يتمكن من تأمين خلافة ابنه غير الشرعي له.
ينطبق الشيء نفسه على جون باليول، ملك الاسكتلنديين في الفترة 1292-1296، رغم أن ابنه إدوارد باليول بذل جهوداً حثيثة لاستعادة عرش والده في القرن التالي. ثم هناك هارولد جودوينسون، الذي لم يتمكن أبناؤه من التغلب على الهزيمة في معركة هاستينغز عام 1066.
3 شروط لتستمر العائلات المالكة الأوروبية
كان يتعين على الأسرة الحاكمة الناجحة فعل ثلاثة أمور: الأول الدفاع عن نفسها أمام خصومها من السلالات الحاكمة الأخرى، وهو أمر فشل جون باليول وهارولد جودوينسون في فعله، لذلك لم يدخل أي من سلالتهما التاريخ في حكم الأراضي التي حكموها.
فيما كانت المهمة الثانية والأساسية هي ضمان استمرارها البيولوجي، أما الأمر الثالث فهو محاولة احتواء الصراعات داخل الأسرة الحاكمة والسيطرة عليها، وهذه الشروط الثلاثة هي أهم أسباب استمرار العائلات المالكة الأوروبية في العصور الوسطى، كما استعرض تقرير لمجلة History Extra البريطانية.
لكن من الواضح أن هذين الأمرين الأخيرين قد يكونان متناقضين، على سبيل المثال قد يسعى الملك لتأمين نسله بإنجاب أعداد كبيرة من الأبناء من عدة نساء، لكن العدد الكبير هذا قد يتسبب في نشوء مشكلات لا يُمكن احتواؤها، وتؤدي إلى قتل بعضهم بعضاً.
كانت هذه الممارسة شائعة بين الملوك الأيرلنديين، ومن الأمثلة البارزة عليها تورديلباخ أكنشوبير (تورلو أوكونور)، ملك كوناكت (1106–56)، الذي أنجب 22 ابناً من ست زوجات على الأقل. وأدى هذا بالفعل إلى أن كوناكت (أو أجزاء منها) ظلت تحت حكم عائلة أوكونور حتى عهد تيودور، ولكنه أدى أيضاً إلى صراع دائم بين فروع العائلة. وكان ملوك كوناكت يقتلون في كثير من الأحيان على أيدي إخوتهم أو أبناء عمومتهم أكثر مما يُقتلون على أيدي الغزاة الإنجليز.
أكبر هاجس لدى العائلات المالكة الأوروبية: اختيار العروس للملك أو لوريث العرش
غير أنه لم يكن لدى الكثير من ملوك العصور الوسطى 22 ابناً، فمعظمهم، خاصة بعد العصور الوسطى المبكرة، قبلوا بمفهوم الزواج كما حدّدته الكنيسة: زوجة واحدة طوال العمر. وبسبب هذا أضحى اختيار العروس للملك أو لوريث العرش هاجساً رئيسياً لدى الأسر الحاكمة، وغالباً ما ينطوي على مفاوضات حول زواج الأطفال في المستقبل، أو حتى في حالات نادرة زواجهم الفعلي.
إذ تزوج هنري، ابن هنري الثاني ملك إنجلترا، من مارغريت، ابنة ملك فرنسا، عندما كان في الخامسة من عمره وكانت هي في الثانية. وانتقد بعض المعاصرين هذا الزواج لـ”طفلين صغيرين لا يزالان يصرخان في مهديهما”، لكنه جلب لهنري الثاني منطقة نورمان فيكسين المهمة، التي اعتُبرت مهر العروس.
وكان أحد القرارات الأساسية التي يجب اتخاذها بشأن سياسة الزواج في الأسر الحاكمة هو ما إذا كان يجب البحث عن العروس من أسرة ملكية أجنبية، أو من الطبقة الأرستقراطية المحلية. وكلتا السياستين لهما مزاياهما وعيوبهما التي نوقشت كثيراً.
ففي دولة ملكية جاءت لاحقاً، روسيا في القرن الثامن عشر، ابتكر أحد الكتاب حواراً خيالياً بين داعم الرأي القائل بأن القيصر يجب أن يتزوج من أميرة أجنبية وآخر يدعم وجوب زواجه من إحدى رعاياه. ورُوي لنا أن الأول قدم 40 حجة تدعم رأيه، لكن الثاني زعم أن لديه 400 حجة!
كان الزواج من سيدة محلية تنتمي لأسرة أرستقراطية وسيلة للتحالف بين الحاكم والعائلات النبيلة، وهو ما قد يشكل مصدر قوة، إلا أنه قد يخل أيضاً بتوازن السياسة الأرستقراطية، كما حدث في حالة إدوارد الرابع، ملك إنجلترا.
إذ كان زواجه من إليزابيث وودفيل عام 1464 هو الأول بين ملك إنجليزي وامرأة إنجليزية منذ عام 1066. لكن إعلاء شأن أقارب إليزابيث وإثرائهم أدى إلى نفور العديد من أنصار إدوارد الأرستقراطيين وأدى إلى خلعه (المؤقت) عام 1470.
وكان الزواج من الأميرات الأجنبيات أيضاً وسيلة لإنشاء تحالفات. وتظهر طبيعة هذه الزيجات المرتبطة بمصلحة الأسرة الحاكمة وليس بالرغبة الشخصية بشكل أوضح عندما يُعرض على الأزواج المحتملين الاختيار من بين الأخوات. وكانت واضحة أيضاً في اتفاقات هذه الزيجات التي كانت تنص على أنه إذا مات أحد من وقع عليهم الاختيار فسيحل محلهم أحد أشقائهم الأصغر سناً.
كانت الروابط بين الأسر الحاكمة هي ما يهم هنا، وليس المشاعر الشخصية. وكثيراً ما انطوت هذه الزيجات على انتقال العروس من ثقافة لأخرى مختلفة، وربما تضطر حتى إلى تبني اسم مختلف يتناسب مع البيئة الجديدة.
إذ تعرضت عروس بيزنطية جاءت إلى الغرب للزواج للانتقاد بسبب عاداتها الرفيعة، مثل تناول الطعام بالشوكة. واضطرت الأرستقراطية الألمانية بيرتا، التي ذهبت في الاتجاه الآخر للزواج في العائلة الإمبراطورية البيزنطية، إلى تغيير اسمها إلى إيرين اليونانية، لكنهم ظلوا يسخرون منها لعدم تزيين عينيها بالمكياج.
اختبار الخصوبة للزوجة الملكية المنتظرة!
كان الغرض من كل هذه المفاوضات المتعلقة بالزواج هو تحقيق الهدف الأساسي للأسر الحاكمة: إنجاب أطفال، أو لنكون أكثر دقة إنجاب أطفال ذكور. ولم يكن من الممكن معرفة خصوبة المرأة مسبقاً قبل الزواج، رغم بعض المحاولات أحياناً. فعندما جاء المبعوثون الفرنسيون إلى أراغون عام 1322 لفحص ابنة الملك باعتبارها عروساً محتملة لملك فرنسا، أُخبروا بأن عليهم “رؤية صدرها عارياً”، لأن هذا قد يشير إلى قدرتها على الإنجاب، “وهو ما يرغب فيه الملك كثيراً” (ويبدو أنها فشلت في هذا الاختبار).
كانت البلاطات الملكية مهووسةً دائماً بانتظار ولادة الأبناء. وبعد سنوات طويلة من الزواج دون حمل، أو الحمل وإنجاب الفتيات فقط؛ كانت الملكة تجد موقفها ضعيفاً، ويبدأ الحديث حول أساليب التخلّص منها.
ولم تكُن الكنيسة تعترف بالطلاق بمعناه المُعاصر: وهو إنهاء الزواج الشرعي. لكنّها كانت تُؤيّد إبطال الزواج، وهو إعلان أنّ الرباط بين الطرفين لم يكُن زواجاً صحيحاً على الإطلاق لمُختلف الأسباب، وخاصةً لأنّ الطرفين كانا قريبين مُقرّبين. وفي الشبكة الكثيفة لملوك العصور الوسطى، لم يكُن من الصعب للغاية الكشف عن تلك العلاقات.
أشهر مثال كانت له تداعيات سياسية رهيبة هو إبطال زواج لويس السابع ملك فرنسا من إليانور آكيتاين، التي لم تلد سوى البنات طيلة زواجهما لمدة 15 عاماً. وصارت حينها متاحةً للزواج، فسعى للزواج منها الشاب هنري أنجو ليُعقد قرانهما في غضون أشهر.
كما دخلت الزيجة بدوقية أقطانية الضخمة التي ورثتها، وأنجبت له ثمانية أطفال، منهم خمسة أولاد. وربما كانت ستُنجب الأولاد للويس لو انتظرها، وكان سينجح حينها بالتأكيد في إبعاد دوقية أقطانية عن أيدي منافسه الكبير هنري الذي صار هنري الثاني ملك إنجلترا. ولا يحتاج الدور المركزي لجسد المرأة في قصة السياسة العليا هذه إلى مزيدٍ من التوضيح.
إذ يُعتبر لويس السابع مثالاً جيداً على الكيفية التي يُمكن بها أن تُسيطر فكرة السعي وراء وريث ذكر على فترة حكمٍ كاملة، حيث تزوّج إليانور مباشرةً قبل وفاة والده عام 1137، وأبطل الزواج في عام 1152. وتزوّج مُجدّداً، في عام 1153 أو أوائل 1154، من كونستانس ابنة ملك قشتالة. ومنحته ابنتين كما حدث مع إليانور، لتموت أثناء ولادة الثانية في خريف عام 1160.
وفي غضون أسابيع تزوّج لويس للمرة الثالثة من أديلا ابنة شامبانيا، سليلة إحدى أكبر العائلات النبيلة الفرنسية. وبحلول العام الجديد 1165، كان من الواضح أنّ أديلا صارت حبلى وارتفعت التوترات بالتزامن مع اقتراب موعد ولادتها في صيف ذلك العام.
حبست باريس أنفاسها لدرجة أنّ أحد الطلاب الشباب عبّر عن الأجواء قائلاً:
“هبط الليل ودخلت الملكة مخاض الولادة الشهيرة
مدينتنا تتوسّل إليك أيها المسيح بصلاةٍ يقظة
رغباتٌ تتوق بشدة لذكر، وبلاطٌ يدعو الله أن تلد ولداً”.
جاء المولود ذكراً ليحصل لويس السابع في النهاية على ابن بعد 28 عاماً في سُدّة الحكم، وصار ابنه فيليب أغسطس من أنجح ملوك فرنسا في العصور الوسطى. وعاشت سلالة الكابيتيين على المحك لينتقل العرش الفرنسي من الآباء إلى الأبناء مباشرة لمدة ستة أجيال أخرى.
موت الملك قبل قدوم وريث العرش يعني تفجر أزمة
كان موت الملك دون ابنٍ يخلفه يعني حدوث أزمةٍ سياسية دائماً. وهو ما يتضح في ما حدث داخل أرغون عام 1134. ففي تلك السنة مات ألفونسو “المقاتل”، ملك أرغون طيلة 30 عاماً، متأثّراً بجراحه أثناء قتال المسلمين الإسبان. ولم يُنجب أي أطفال.
كان ألفونسو يستحق لقبه في الملك بالنسبة لأبناء مملكته؛ إذ غزا مدينة المسلمين المهمة سرقسطة، وكان يحظى بالاحترام كمقاتل من جانب أعدائه المسلمين، لأنّه لم يُعاشر بنات الزعماء المسلمين الذين كان يأسرهم كما كان يفعل ملوك آخرون.
دخل ألفونسو زيجةً قصيرة بدون أطفال، بينما صار قريبه الذكر المقرب الوحيد، شقيقه، راهباً. ووسط هذه الظروف، اتّخذ ألفونسو قراراً غير اعتيادي بتسليم مملكته للتنظيمات الرهبانية الصليبية: فرسان الهيكل، وفرسان الإسبتارية، وفرسان القبر المقدس.
وفي حال تنفيذ وصية ألفونسو كانت أرغون ستصير أول دولة تُديرها التنظيمات الرهبانية الصليبية -من النوع الذي مثّله لاحقاً فرسان تيوتون في بروسيا وفرسان الإسبتارية في رودس- لكن نبلاء أرغون لم يكونوا مستعدين لحدوث ذلك، واتّخذوا خطوات استثنائية لضمان بقاء السلالة الأصلية.
إذ سُحِبَ شقيق ألفونسو، راميرو الراهب، من ديره وتزوّج بسيدةٍ فرنسية نبيلة. ولم يُسمح له بالعودة إلى حياته الرهبانية حتى أنجبت طفلة تُدعى بترونيلا. واعتقد البعض أنّ هذه الخطوات كانت خاطئة، لكنّهم كانوا يتفهّمون رغبة أبناء الأرغون في إدامة “البذرة الملكية”.
وبهذا صارت بترونيلا ملكة أرغون وعمرها عامٌ واحد فقط. وكانت بحاجةٍ إلى وصي بالطبع، لذا خُطِبَت إلى كونت برشلونة النافذ، الذي كانت أراضيه تقع على حدود أرغون. وكان يكبرها بـ23 عاماً، ولذا سينتظر طويلاً قبل الزواج الفعلي. ولكن مع اقتراب عيد ميلادها الـ15، صارت بترونيلا حُبلى وتنتظر الولادة داخل مدينة زوجها برشلونة، حيث أصدرت وثيقة غير مسبوقة في الرابع من أبريل/نيسان عام 1152.
بدأت الوثيقة على النحو التالي: “أنا بترونيلا، ملكة أرغون، التي ترقد في مخاضها ببرشلونة…”. ثم انتقلت إلى الحديث عن طفلها الذي باتت ولادته وشيكة، سواء كان “من سيخرج من رحمها ولداً، بمشيئة الرب، أو فتاة”. وتبرّعت بألفي عملة ذهبية لصالح كنائس أرغون وبرشلونة من أجل الدعاء لها. وأنجبت في النهاية ولداً سليماً سيصير لاحقاً ملكاً بعدها. وبهذا حُفِظَت “البذرة الملكية” لأرغون.
قوة الفتيات في حكم بلادهن واستمرار العرش لسلالاتهن
كان أبناء أرغون على استعداد لقبول حكم ملكة من العائلة الملكية المحلية أكثر من البدائل الأخرى. لكن بترونيلا لم تكُن أوّل سيدة ذات سيادة في أوروبا خلال العصور الوسطى. إذ كانت هناك بالفعل ثلاث إمبراطوريات حاكمات في بيزنطة، رغم أنّهن لم يقضين وقتاً طويلاً في السلطة، بينما كانت الملكة أوراكا تحكُم مملكة ليون وقشتالة المُجاورة بين عامي 1109 و1126، وإبان أزمة أرغون عام 1134، كانت حاكمة مملكة القدس -المستعمرة الأوروبية- سيدة تُدعى الملكة ميليسندا.
عموماً، شهدت أوروبا في العصور الوسطى 27 سيّدة حاكمة على الأقل. ورغم أنّ المجتمع الأبوي للملوك كان يُفضّل حكم الرجال، بمبررات عسكرية عادةً، لكنّ النساء حصلن على الاعتراف بوصفهن حاملات لعروش السلالات الملكية عند افتقار الملوك للأبناء الذكور.
ولكن حلّ مشكلة استمرار السلالة بواسطة الزيجات عالية الخصوبة وإنجاب الذكور لن يحل المشكلات الأخرى التي تواجهها السلالات، وخاصةً في ما يتعلّق باحتواء الصراعات والمنافسة.
إذ كانت تجري تربية أبناء السلالة الملكية، بمن فيهم الأصغر سناً، على ممارسة القيادة والقتال فوق ظهر الخيول بالأسلحة الفتاكة. فضلاً عن تربيتهم على المجد الكبير للدماء الملكية التي تجري في عروقهم. وكان أولئك الشباب يمتلكون درجةً عالية من الفخر والكرامة، ويمقتون القيود والحدود.
فمن كان ليُصدّق أن تموت القوات الألمانية والفرنسية في عام 1870 أو 1914 بسبب خلافٍ بين السلالات في القرن التاسع؟
لكن حتى في حال الاعتراف بالأخ الأكبر وريثاً للعرش، ويجري تنصيبه عادةً في فترة حياة والده، فربما يشعر في داخله أنّ والده تأخّر عن موعد وفاته. ومن أمثلة ذلك نجل شارل السابع ملك فرنسا، لويس دوفين، الذي كان “يتمنّى لوقتٍ طويل أن يحكم البلاد ويضع التاج فوق رأسه” حين فرّ في عام 1456 إلى بلاط دوق بورغوندي عدو والده. ولم يلتق لويس بشارل خلال السنوات الـ14 الأخيرة من حياة الملك، رغم أنّ ذلك لم يمنعه من اعتلاء العرش الفرنسي بعد خمس سنوات من فراره.
غيرة الأشقاء قد تنهي استمرار حكم عائلاتهم
مثّل الأشقاء الأصغر أيضاً تهديداً على وحدة العائلة، برفضهم أحياناً الرضوخ لمكانة الأشقاء الأكبر المُميّزة. واعترفت بعض أنظمة السلالات الحاكمة بحقوقهم عن طريق منحهم جزءاً من المملكة عند وفاة الملك العجوز.
إذ تعرّضت مملكة الفرنجة العملاقة للتقسيم المستمر بين الأشقاء وأبناء العم أوائل العصور الوسطى، رغم أنّ تلك التقسيمات صارت نادرة بعد عام 1000 ميلادياً.
لكن على العكس، عثرت بعض أنجح السلالات الحاكمة على طرق لتلبية مطالب الأشقاء الأصغر وتسخير طاقاتهم، كما فعل لويس التاسع ملك فرنسا، إذ خدمه أشقاؤه الثلاثة بشكلٍ جيّد، ورافقوه بشكلٍ عام في حملاته الصليبية، حيث مات واحدٌ منهم بينما حلّ أحدهم رهينةً محل الملك -بعد القبض عليه- كضمانة لدفع الفدية، وحصل الأشقاء الثلاثة على سيادات كبيرة في فرنسا، ما فسّر الولاء الكبير للملك.
إلا أن تلك الطريق كانت لها مخاطرها الكبرى، فمن المحتمل أن تخرج أوقاف الأراضي الضخمة، المملوكة للأشقاء الأصغر، عن سيطرة الملك إلى الأبد. إذ بدأت قصة أراضي بورغوندي، التي كادت تصير مملكةً مستقلة، بهذه الطريقة، وبهذا تعيّن على السلالات الحاكمة أن تتحسّس طريقها المحفوف بالمخاطر بين تهديد الانقراض البيولوجي وبين فوضى الصراعات داخل العائلة.
كانت هناك أنظمة سياسية أخرى في أوروبا خلال العصور الوسطى. إذ كانت آيسلندا والبندقية، المناطق المختلفة تماماً عن بعضها، تُحكم بنظامٍ جمهوري. بينما كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي تتألّف من ألمانيا وشمال إيطاليا، تمتلك قيادة منتخبة نظرياً. وصارت إمبراطورية انتخابية بين عامي 1254 و1438، وبعدها هيمن آل هابسبورغ على اللقب الإمبراطوري.
لكن سياسات السلالات الحاكمة هي التي تركت بصمتها الأعمق على أوروبا، وهي بصمةٌ يُمكن رؤيتها حتى يومنا هذا سواءً في الدول التي انبثقت عن اتحاد بين السلالات الحاكمة -مثل إسبانيا- أو الدول التي نشأت بسبب انقسام سلالة حاكمة.
ولم يكُن لفرنسا أو ألمانيا وجود في أوائل العصور الوسطى، بل نتجت تلك الدول عن انقسام عائلي بين أبناء شارلمان. إذ اندلع نزاعٌ حول الحدود، وهي الحجة التي ما تزال قائمةً حتى القرن العشرين.
ومن كان ليُصدّق أنّ بعض الترتيبات المؤقتة للسلالات الحاكمة في القرن التاسع ستظل آثارها محفورة بشكلٍ دائم على خريطة أوروبا، وأنّ شباباً سيموتون من أجل تلك الخطوط على الجبهة في عام 1870 أو 1914، بعد ألف عام على وضعها؟ وبهذا كانت سياسات العائلة في أوروبا الوسطى عبارةً عن مشاجرات عائلية تضخّمت، ولكنّها تضخّمت أكثر من اللازم في بعض الحالات بالتأكيد.
عربي بوست
اقرأ ايضاً: هكذا تنتقون البطيخة الحمراء المثالية.. اليكم السر