شهد، يوم الاثنين، استهداف الدورية الروسيّة – التركيّة رقم 24 عبر قذيفة آر بي جي (حسب الأنباء الأولية) أصابت عربة عسكرية تركية ودمرتها جزئياً، لتكون بذلك ثاني دوريّة مشتركة تتعرض للاستهداف بعد العمليّة النوعيّة التي نفذها الانتحاري أبو عبيدة الأنصاري ضد الدورية رقم 21، وقد تبنّى المسؤولية عنها، في حينه، تنظيم جديد أطلق على نفسه اسم “كتائب خطّاب الشيشاني” الذي لم يتأخّر في تبنّي العمليّة الثانية، مؤكداً على مواصلة نهجه في “تنفيذ العمليات القاصمة ضد الدوريات التركية الروسية الصليبية وذلك في رسالة واضحة لهم”، حسب بيان نشرته القناة الرسمية للكتائب على موقع تلغرام.
ولا شكّ في أنّ كتائب الشيشاني تكون من خلال تنفيذ العملية الثانية، قد نجحت في تحقيق إضافة جديدة على رصيدها الجهادي المفتوح حديثاً، وفي تسليط الضوء عليها باعتبارها جماعةٌ ناشئة من شأن تصاعد دورها أن يهدّد سياسة التهدئة المعتمدة في إدلب حسب التفاهمات الروسية التركية وآخرها اتفاق الخامس من شهر آذار/مارس.
وجاء ظهور كتائب الشيشاني بينما كانت الأجواء في إدلب تشير إلى وجود مناخ مهيّأ لتحييد الفصائل المتشدّدة ومنعها من عرقلة تنفيذ الاتفاق الروسي- التركي. وكان من المتوقّع أن تشكّل الحملة التي قادتها “هيئة تحرير الشام” ضد غرفة عمليات “فاثبتوا” المكوّنة من فصائل مقربة من تنظيم “القاعدة” أو مبايعة له، وعلى رأسها جماعة “حراس الدين”، الخاتمة السعيدة لمختلف الأطراف المعنيّة بمحاربة الخارجين عن أطر التفاهمات الاقليمية والدوليّة. غير أن التفجير الانتحاري الذي استهدف الدورية 21، والموقع باسم الفصيل الجديد، جعل ولادة كتائب الشيشاني بمثابة انقلاب على هذه الأجواء التفاؤليّة.
هذا الانقلاب الميداني الذي دفع روسيا قبل أيّام قليلة إلى إعلان تعليق تسيير الدوريات المشتركة على طريق M4، قبل العودة إلى استئنافها فجأةً ومن دون تمهيد، قد يكون مجرّد تعبير عن عدم رضا شريحة من مقاتلي إدلب عن المسار التركي – الروسي فوضعوا نصب أعينهم العمل على إفشاله، لكنه أيضاً قد يكون أوسع من ذلك، وقد يشير إلى وجود قوى أخرى إقليمية أو جهاديّة أرادت اقتناص اللحظة من أجل خلط الأوراق في منطقة إدلب لخفض التصعيد. وفي كلتا الحالتين فإن كتائب الشيشاني ستكون محور البحث والسؤال لمعرفة طبيعتها وارتباطاتها وأهدافها الحقيقية.
في هذا الإطار، لم يستبعد البعض أن تكون كتائب الشيشاني صنيعة الاستخبارات السورية والايرانية التي لها مصلحة –حسب هؤلاء- في إفشال الاتفاق الروسي التركي والعودة إلى الحلّ العسكريّ. بينما ذهب البعض الآخر إلى وجود خطة تقودها دول خليجية تهدف إلى إحراج أنقرة وإظهارها بمظهر العاجزة عن الالتزام باتفاقاتها الموقّعة مع موسكو، في حين كان لقسم ثالث رأي يقول بأن أبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام، وجهازه الأمني، هما من يقفان وراء تشكيل كتائب الشيشاني كي تكون بمثابة الأداة الجاهزة لتنفيذ المهمات القذرة التي لا يستطيع الجولاني تبنيّها علانية لأنها تتنافى مع الصورة الجديدة التي يعمل على تسويقها لنفسه باعتباره قائداً سياسياً يقود عملية تحرير وطنية ضد المحتلين الروسي والايراني.
وسط ذلك يبقى احتمالان اثنان: الأول أن تكون كتائب الشيشاني مجرد عنوان جديد لخلايا تنظيم “داعش” التي كانت منذ شهور عديدة محل تجاذبات جهاديّة من أجل إعادة دمجها في المشهد الإدلبي. وقد نشر موقع 180 بوست في أواخر شهر تشرين الثاني من العام الماضي تقريراً بعنوان “جهود لدمج خلايا داعش في إدلب وشرعنتها جهادياً”.
وقد ذكر التقرير أن الشيخ الأردني أبو محمد المقدسي الذي يعتبر من أبرز المرجعيات الدينية للفكر الجهادي، يقود مساعٍ حثيثة لبناء جسور تواصل بين بعض قيادات وخلايا “داعش” الوافدة في إدلب من جهة، وبعض قيادات الفصائل التي يمون عليها من جهة ثانية.
ولعلّ ما يعزّز هذا الاحتمال أن الاصدار المرئي الذي نشرته كتائب الشيشاني لتوثيق العملية الانتحارية الأولى التي نفذها ضد الدورية المشتركة، استثنى تنظيم الدولة من حملة الانتقادات التي شنّها ضد مختلف الأطراف، بدءاً من روسيا وتركيا متهماً إياهما بالاحتلال وتدمير مدن المسلمين، ومروراً بهيئة تحرير الشام باعتبارها نكثت بوعدها الذي قطعته على لسان زعيمها الجولاني بعدم السماح بمرور الدوريات المشتركة، وانتهاءً بغرفة عمليات “وحرض المؤمنين” التي اكتفت بالاستنكار والتنديد لمواجهة التفاهمات الروسية التركية.
جميع الاحتمالات واردة، ومن غير المستبعد أن يكون ثمّة جناح داخل هيئة تحرير الشام متورط في تشكيل التنظيم الجديد، كما من غير المستبعد أن تكون الاستخبارات التركية قد غضّت طرفها عن ظهوره
كما أن الاصدار شبّه الغارات الروسية على مناطق إدلب بالغارات التركية على مدينة الباب عام 2016 عندما قادت تركيا معارك طرد تنظيم “داعش” منها.
وعلاوة على ذلك، فقد سبق لديوان الإعلام المركزي في “داعش” نشر مقالة ملفتة في العدد 211 من صحيفة النبأ حملت عنوان “حرب المعابر والطرق في إدلب”. وتضمنت المقالة ما يمكن اعتباره أوضح قراءة يقدمها تنظيم “داعش” لواقع الحال في إدلب، كاشفاً في الوقت ذاته عن رغبته في اختراق هذا الواقع، وربما العمل على قلبه رأساً على عقب، وهو ما اشار إليه تقرير منشور في موقع 180 بعنوان “داعش يصوّب على إدلب انطلاقاً من حرب المعابر والطرق” .
ويظلّ اغتيال أبي بكر البغدادي زعيم التنظيم الراحل في ريف إدلب، بمثابة اللغز الذي من شأن فك شيفرته أن يكشف عن حقيقة مخططات التنظيم لهذه المحافظة وماذا كان يرسم لها حتى اختارها لتكون ملاذاً لزعيمه الهارب من آخر هزائمه في بلدة الباغوز بريف ديرالزور.
أما الاحتمال الثاني، فيتمثل في وجود نخبة من المقاتلين الأجانب والسوريين ممن قرأوا المشهد الإدلبي على ضوء التدخلات الخارجية ووجدوا بين ازدحام اللاعبين ثغرات يمكن لهم استغلالها من أجل العمل على تغيير الواقع وخلط أوراقه مستندين إلى تضارب مصالح وتناقض أهداف هؤلاء اللاعبين بما يتيح لهم تشكيل فصيل جديد قد يكون مؤهلاً لوراثة الأدوار التي تقوم بها بعض الفصائل وعلى رأسها هيئة تحرير الشام.
جميع الاحتمالات واردة، ومن غير المستبعد أن يكون ثمّة جناح داخل هيئة تحرير الشام متورط في تشكيل التنظيم الجديد، كما من غير المستبعد أن تكون الاستخبارات التركية قد غضّت طرفها عن ظهوره، وذلك لأن كلا الطرفين يواجهان تحديات معقدة في إدلب وقد يحتاجان من اجل مواجهتها إلى وجود فصائل متمردة تكون بمثابة المبرِّر لدعساتها الناقصة في سياق الانعطاف والتحول، أو بمثابة الذريعة لإبقاء المشهد الإدلبي مفتوحاً على احتمالات أخرى تختلف عمّا ترسمه الدبلوماسيّة الروسية، متى ما سمحت الظروف والتطورات بذلك.
180بوست