موقد منبج يدفئ خط موسكو واشنطن
سامر علي ضاحي
مع استعادة السيطرة على دير الزور وتجاوز الجيش خط نهر الفرات سقط حينها التفاهم الروسي الأميركي في سورية المبني أساساً على اقتسام النفوذ في شمال شرق البلاد، والتي بموجبها كانت مناطق شرق الفرات حصرية لحلفاء واشنطن من «قوات سورية الديمقراطية- قسد» لذلك أقامت أميركا العديد من القواعد العسكرية هناك ودججتها بجنودها ومعداتها.
وبعد أشهر من استعادة دير الزور جاءت الاعتداءات المجهولة على قاعدة حميميم الروسية لتكشف عن نار متقدة من التوتر بين القوتين الدوليتين واشنطن وموسكو، وتوقفت معها الاتصالات بينهما بشكل شبه تام مع الحفاظ على شعرة معاوية فيما يتعلق بأمن التحليقات الجوية في الأجواء السورية.
في كل ما سبق كانت نقاط تركيا في سورية تتراجع نفوذاً وحصيلة، وزادها ضغطاً عملية الجيش العربي السوري في إدلب، ووصوله إلى ما يعرف بين أوساط البعض بـ«اتفاق السكة» المحدد لمنطقة خفض التصعيد في إدلب، فوجدت أنقرة الفرصة سانحة لانتشار عسكري في شمال غرب البلاد مهد لاحقاً لإطلاق عدوانها الواسع على عفرين، حتى لو حمل اسم «غصن الزيتون»، وهو ما دعا المتصارعين الروسي والأميركي لإعادة حساباتهما فيما يتعلق بمنطقة شمال سورية.
مطامع التركي باتت ترى طريقاً على الأرض، ورغم تأكيد أنقرة حرصها على وحدة سورية، إلا أنها استهدفت القوات الشعبية التي كانت متجهة إلى عفرين، وهددت باستهداف الجيش العربي السوري لو دخل إلى المنطقة، رغم أن هذا الدخول أيضاً يحقق مصلحة لها بلجم القوات الكردية وعلى رأسها «وحدات حماية الشعب» و«قسد» وقوات حزب العمال الكردستاني»، إذ لا رغبة لأنقرة بخلق متنفس للأكراد في شمال سورية قد ينقل عدوى مماثلة إلى جنوب تركيا.
وفيما يبدو أن تركيا استطاعت حشد قبول إقليمي ودولي بـ«غصن الزيتون» ونسقت حول بعض تفاصيلها مع الروس، فإن واشنطن رأت في العملية تهديداً لمصالحها فأوفدت مسؤوليها لمناقشة أنقرة سياسياً وعسكرياً، دون أن تحصل على إجابة تشفي غليلها، وكان الجواب قطعياً بوجوب سحب قواتها من منبج، فما كان للأميركي سوى الاتجاه صوب موسكو ليعيد الحرارة إلى خط الاتصالات بهدف إعادة ترتيب الأوراق في الشمال السوري من جديد.
الاتصالات الأميركية الروسية المكثفة، وضيق الوقت المتاح أعاد الحرارة للتفاهم الروسي الأميركي السابق باستبقاء شرق الفرات منطقة نفوذ أميركية، ويبدو أن الأمور تسير باتجاه سحب قوات الأخيرة من منبج تحقيقاً لهذا الغرض، لأن الروس يبدو أنهم هددوا الأميركيين بوصول الجيش العربي السوري إلى منبج، وهو ما لا ترغب به واشنطن إلا أن الأخيرة قبلت على مضض بانتشار تركي مدعوم بميليشيات صديقة لأميركا في منبج يحقق مصالحها ومصالح الروس وحتى مصالح حلفائها من المسلحين.
اليوم لم يعد ثمة قوة قادرة على الحفاظ على ما تبقى من المسلحين سوى تركيا مع انكشاف جبهات القتال الداخلية جميعها لاسيما عدم قدرة كل الأطراف على إيقاف عملية الجيش السوري في الغوطة.
وبدخول تركيا إلى منبج تتحقق مصلحة روسية بإخراج أميركا من غرب الفرات في إطار خطة تكتيكية روسية تعتمد على قضم مناطق النفوذ الأميركي بهدوء وبشكل متلاحق، وهي مصلحة تلتقي مع المصالح الإيرانية وحتى مع المصلحة التركية وبشكل أقل مع المصلحة السورية القصيرة الأمد.. لا ريب أن الدخول التركي إلى منبج يقضي بشكل كبير على الحلم الكردي بالفيدرالية إذا ما تلا حصار عفرين والسيطرة عليها، ويبعد الإيراني عن مواجهة مباشرة مع الأميركيين، لذلك يرى الروسي أن من مصلحته طرد الأميركي من منبج ويعمل لاحقاً على طرده من التنف، ليتبع ذلك إشغال القوات الأميركية المتواجدة في شرق الفرات بعمليات أمنية تقوم بها قوات سورية بالتنسيق مع إيران.
ورغم التخوف الإيراني من الانخراط التركي المتزايد في المنطقة إلا أن طهران تدرك أن لا قدرة له بتصعيد إقليمي شامل لاسيما مع الأميركيين، أو ضرب التفاهم الروسي الأميركي، ومباركة طهران لتفاهم منبج يتيح لها التأكيد بأنها موجودة في المنطقة وتدرك أن عليها لتحقيق هذا الهدف مراضاة القوى الأخرى كتركيا وروسيا.
لعل الدخان الأبيض الذي خرج من الخارجية التركية أول أمس عن تفاهم مع أميركا على الاستقرار في منبج يشير بشكل أو بآخر إلى ما سبق.
إنها وجهة نظر، ولننتظر لنرى ما تحمله لنا الأيام القادمة.
الوطن