الجمعة , نوفمبر 22 2024

أنقرة تغرق في المستنقع السوري.. انقلاب الوحوش على مربيها

عبد الله سليمان علي

مارس حكّام أنقرة، ردحاً من الزمن، سياسة ترويض الوحوش وإفلاتها لمهاجمة خصومها في دول الاقليم. وكان “الجهاديّون” متعدّدو الجنسيّات الصيد الأثمن الذي استخدمته الاستخبارات التركيّة لخلق “بعبع” تُهدّد من خلاله كلَّ من يقف ضدّ سياساتها التوسعيّة في المنطقة. ومن سوريا إلى ليبيا وصولاً إلى أفريقيا، كان السيف الجهاديّ لا يُشهر إلا في وجه خصوم أنقرة، ولا تُقطف غلّته إلا لتتراكم في جعبة مصالحها الجيوسياسيّة.

وقد حقق تحالف أنقرة مع وحش الجهاد العالميّ، مكاسب كثيرة في عدد من الدول، أبرزها سوريا وليبيا. ففي الأولى ما زال خروج تنظيم داعش من مدينة جرابلس وتسليمها دون قتال إلى القوات التركية منتصف العام 2016 لتكون أول مدينة سورية تطؤها أقدام الجنود الأتراك، خير مثال على التخادم المتبادل بين الطرفين في تلك المرحلة. وقد أعقب ذلك تعميم هذا المثال على جماعات جهاديّة أخرى لخلق مناطق نفوذ تركية على الشريط الحدودي مع سوريا تحت مسمّى “المناطق الآمنة”. أما في الثانية، ما زال المرتزقة السوريون الذين أرسلتهم تركيا لدعم حكومة الوفاق يلعبون أدواراً خطرة في زعزعة الاستقرار وترسيخ النفوذ التركي.

لكن ما لم يكن في حسبان أنقرة، أو أنه كان ولكنها كانت تعمل على تأجيل حدوثه، هو أن ترويض الوحوش لا يخلو من مخاطر كبيرة على الأمن القومي للدول الذي تمارسه، قد يفوق المخاطر التي تذرّعت بها بداية من أجل التدخل في شؤون البلدان الأخرى. وأنّ المروِّض مهما بلغ من المهارة لا بدّ أن يصل إلى مرحلة يعجز فيها عن إشباع غرائز وحوشه التي سرعان ما تعود إلى طبيعتها وتنقلب على صاحبها لإسكات جوعها. وقد يكون لهذا الانقلاب دويّ خاص إذا كان المروَّض من نوع الوحوش المؤدلجة التي لا تتوانى عن تأويل النصوص المقدسة بما يتلاءم مع نداء غرائزها.

فهل وصلت أنقرة إلى هذه المرحلة في سوريا، وهل نحن أمام فصل جديد من انقلاب الجهاديين على السياسة التركية بعد أن عجزت الأخيرة عن إشباع النّهم الجهاديّ الطامح لنشر الخراب والفوضى في كل مكان؟

قد يكون من المبكر وضع إجابة حاسمة عن هذا السؤال المصيري، لأن أذرع أنقرة المتشعبة ما تزال تمسك بخيوط العديد من التنظيمات الجهادية وتعمل على تسييرها ضمن مخططات مسبقة تخدم مصالحها واتفاقاتها الاقليمية والدولية. لكن، في المقابل، لا يمكن التغاضي عن الارهاصات الأولية التي أخذت بالبروز منذ بضعة أشهر، وتدل فيما تدلّ عليه، أن ثمّة تمرداً حقيقياً ضد سياسات أنقرة داخل بعض أجنحة التنظيمات الجهادية التي وجدت نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما إما أن تموت من الجوع لأن ما تقدمه لها المائدة التركية لم يعد يلبي حاجاتها، وإما أن تستمر على قيد الحياة ولو كان الثمن هو نهش لحم مروِّضها التركي.

وآخر هذه الارهاصات، وقد يكون أهمها وأخطرها بالنسبة لأنقرة، هو تفجير سيارة مفخخة، يوم الجمعة، بالقرب من قاعدة عسكرية تركية في قرية مرج الزهور، جنوب مدينة جسر الشغور.

ويتمثّل مكمن الخطورة في أن هذه العملية، التي لم تتبنّ المسؤولية عنها أية جهة معروفة بما فيها “كتائب خطّاب الشيشاني” المختصّة باستهداف الدوريات التركية الروسية المشتركة على طريق أم فور، هي انها أول عملية من نوعها تستهدف قاعدة تركية ثابتة في الشمال السوري، في حين كانت الاستهدافات السابقة تقتصر على العربات المتحركة ضمن الدوريات المشتركة. وهذا يعني، أن نطاق استهداف القوات التركية بدأ بالتوسع، ومن شأن ذلك أن يقرع جرس الانذار في أروقة أجهزة الاستخبارات التركية نظراً للعدد الكبير من الجنود الأتراك المنتشرين في أكثر من 60 نقطة وقاعدة في طول وعرض محافظة إدلب، مما يجعل من حمايتهم وتأمين سلامتهم مهمة شبه مستحيلة.

وقد يتحقق الجانب الأخطر لهذه العملية في حال بقيت أبوّتها مجهولةً، أو في حال تبنتها جماعة غير “كتائب الشيشاني” لأن ذلك سيعني شيئاً واحداً هو أن التوسّع لا يشمل نطاق الأهداف التركية وحسب، بل يشمل أيضاً الجماعات والخلايا التي بدأت بالانقلاب على أنقرة وسياساتها، مما سيضع على عاتق الاستخبارات التركية عبئاً اضافياً لملاحقة جماعات مختلفة في ذات الوقت، وذلك علاوة على انشغالها بملفات أخرى لا تقل أهمية مثل التعاطي مع “هيئة تحرير الشام” لإلزامها بعدم عرقلة اتفاق التهدئة، وكذلك مواجهة احتمالات التصعيد العسكري من قبل موسكو ودمشق.

وقد تزامن هجوم السيارة المفخخة على القاعدة التركية مع حدث أمني آخر من شأنه تعزيز فرضية انفلات الوحوش المروَّضة من قبضة أنقرة. حيث ذكر المرصد السوري لحقوق الانسان أن مجموعة مسلحة مجهولة هاجمت مقراً لعناصر فرقة الحمزة التابعة لما يسمى “الجيش الوطني” المدعوم من قبل تركيا، في قرية دير سنبل بمنطقة جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي، ما أدى إلى إصابة عدد من العناصر بجروح متفاوتة.

وسبق ذلك قيام تنظيم داعش بشنّ حملة مشبوهة ضد من أسماهم “طواغيت تركيا وقطر” وذلك في تسجيل صوتي لأبي حمزة المهاجر المتحدث الرسمي باسم التنظيم بُثَّ في شهر أيار (مايو) الماضي. وأعلن التنظيم في أواخر شهر تموز (يوليو) استهداف عربة تركية على طريق الراعي – الباب في شمال حلب، الأمر الذي اعتبره مراقبون بمثابة خطوة نوعية منذ المواجهات التي دارت بين الطرفين في مدينة الباب عام 2016.

وقد تحمل هذه الأحداث في طياتها دلالات مهمة على إمكانية استدراج القوات التركية إلى المستنقع السوري نتيجة وصول العلاقة بين الاستخبارات التركية وبعض الجماعات الجهاديّة إلى لحظة الطلاق بسبب تعارض المصالح فيما بينها. غير أن حصول هذا الطلاق بالفعل ما زال مستبعداً لأسباب مختلفة. قد يكون من بينها قدرة الاستخبارات التركية على التعاطي مع هذه الجماعات بأساليب مختلفة بحيث يتم تعويضها عن خساراتها في الملف السوري بفتح آفاق جديدة لها في دول أخرى. لكن أهم هذه الأسباب أن ثمة أصوات داخل هذه الجماعات ما تزال قادرة على تأويل النصوص وليّ عنق “السياسة الشرعية” من أجل تأخير حدوث الانقلاب على السياسة التركية وتحويله إلى مستنقع يستنزف القوات التركية.

أحد هذه الأصوات هو “مندوب الحكيم” المعروف بقربه من تنظيم القاعدة وجماعة “حراس الدين” في إدلب، الذي رغم تأكيده على القاعدة العامة بخصوص أن “الجيش التركي هو جيش علماني مرتد ويجوز قتاله واستهدافه” إلا أنه حاول إفراغ هذه القاعدة من مضمونها من خلال إعطاء وضع استثنائي للقوات التركية داخل الأراضي السورية، حيث قال على موقع تلغرام تعقيباً على استهداف القاعدة التركية في مرج الزهور، أن مسألة “استهدافه (الجيش التركي) داخل أرض الشام يجب أن تخضع دوماً للمشورة الشرعية وفقه الواقع واستفتاء مشائخ الجهاد في ذلك من دون إفراط ولا تفريط لأن المسألة خطيرة ولها ما بعدها وقد تفتح صفحة جديدة من صفحات الجهاد الشامي سواء نحو الأفضل أو نحو الأسوأ”.

ليبقى السؤال هل ستغوص أنقرة في المستنقع السوري بعد انقلاب وحوشها ضدها، أم أن رسن التأويلات الفقهية سيكون قادراً على إعادتها إلى حظيرة الطاعة؟
النهار العربي