اكتشف المواطن (سعيد) الذي بدأ وعيه أواخر الستينات ومطلع سبعينات القرن الفائت أن مصروفه الجيد الذي كان يحصل عليه وكانت تسمى (خرجية) يكفيه ليعيش حياة أكثر من رغيدة .
وكانت (القروش) العشرة (فرنكين) كل (1) ليرة سورية تساوي مئة قرش التي كان يحصل عليها من والده وهو صغير تكفيه ليشتري (منقوشة زعتر) أو كازوزة (اورانجو أو فريش أب) بماركات تلك الأيام ولم يكن يخطر بباله أبداً أنه عندما سيكبر ستكون هذه القروش العشرة التي تساوي 10% من الليرة السورية المجيدة لن تكون سوى قطعة نقدية توضع في متحف العملات كذكرى للزمن الجميل .
حيث أصبح ثمن تلك المنقوشة التي كانت مؤلفة آنذاك من زيت الزيتون الصافي والزعتر الحلبي الأصلي في تلك المرحلة بما يقارب المئة ليرة حالياً مع تردي المكونات أي أنها أصبحت أغلى من سعرها أيام ذلك الزمن الأصيل بحوالي عشرة آلاف ضعف دفعة واحدة إنه (التضخم) بما يحمله من أنواع ومسميات فهو جامح ومكبوت ومستورد وهو يدفع الطلب ويدفع التكاليف بآن معاً حسبما قرأ ودرس وتعلم في جامعته.
هل ازداد الدخل بمقدار عشرة آلاف بالمئة، كان ذلك سؤالاً خطر في ذهنه وهو يحسب دخله الجديد الذي ارتفع بنسبة لا تتجاوز ألف مرة في أحسن أحوال الدخل، في حين أنه عند البعض لم يتجاوز (100) مرة فقط إذاً أين ذهب هذا الفارق الهائل.
وما هو سبب الفجوة الكبيرة بين الدخل ونفقات المعيشة لعلها معادلة صعبة لم ولن يستطع حلها المواطن (سعيد) رغم جميع محاولات الفهم والتحليل واستخدام جميع عناصر علم الاقتصاد التي تعلمها في جامعته.
إنه (الذهب) الحافظ للقيم كانت هذه العبارة التي استنتجها بعد طول عناء نعم إنه الذهب المعدن النادر الذي لا يُطاله التضخم أمام العملات الورقية التي اخترعها الإنسان وأصبح يطبع منها ما يشاء ليغطي العجز الحاصل بين النفقات والإيرادات.
أدرك حينها المواطن (سعيد) أن جميع مدخراته ومداخيله لن تكفيه الآن لمحاولة ردم هذه الفجوة واستمر في ولوج بحر الذكريات الجميلة عندما كانت النزهات والحفلات وشراء البيوت أو كسوتها وحتى السفر داخل وخارج البلد أمراً يسيراً كما طافت به الذاكرة وأدرك أن مجموع ما دفعه للإقامة في القاهرة لمدة شهر كامل مع الهدايا لم تتجاوز أكثر من (30) ألفاً مطلع التسعينات وهي اليوم لا تكفي وجبة طعام لعدة أشخاص في مطعم على ضفاف نهر النيل.
تأمل المواطن (سعيد) عشرة القروش التي بيده اليوم وقلبها بين إصبعيه عدة مرات وتذكر عندما كانت تستخدم في لعبة (الطرة والنقش) وتحدث في نفسه حتى لا يسمعه أحد وهو لا يريد ذلك هل فعلاً (الطرة) أفضل من (النقش) أم أن الأمر سيان ولا داعي للقلق على المستقبل وبخاصة لمستقبل أولاده الذين قد كبروا وأصبحوا يحلمون بزمن جميل كالزمن الذي عاشه، وكيف ذلك ومعادلات الاستهلاك والادخار والاستثمار لا تستطيع تفسير ما حدث وما يحدث؟ وهل سيأتي زمن قادم تصبح فيه منقوشة الزعتر بعشرة آلاف ليرة مثلاً !!.. وعندها ستتوقف جميع النظريات الاقتصادية عن تفسير ما سيحدث.
أعاد المواطن (السعيد) قروشه العشرة لمتحفه الخاص لعلها تصبح ذات قيمة تذكارية يوماً ما وتباع بملايين الليرات وقبل أن يستمر في حلمه أدرك حقيقة استخدمت يوماً ما كمضرب مثل شائع، واليوم يبدو أنها تلخص قصة اقتصادية قصيرة جداً (وهي أنه ليس كل ما يلمع ذهباً).
كتبه: د. عامر خربوطلي العيادة الاقتصادية السورية فيسبوك
إقرأ أيضا :بنك سورية الدولي الإسلامي يكرم رئيس مجلس إدارته السابق