الجمعة , نوفمبر 22 2024

الاستشفاء: تعرف على الجزيرة الساحرة في كرواتيا التي يقصدها الناس للعلاج

ما إن وطأت قدماي أرض لوشيني إلا وشعرت بالراحة والانتعاش يغمرني. وحتى الآن حين أغمض عيني أتخيل نفسي أستنشق هواء البحر العليل للجزيرة يتخلله أريج الصنوبر أثناء التمشي بين طرقها الساحلية المتعرجة حيث تتناهي لأذني أصوات الأمواج تتدافع بين الصخور.

أتذكر شعوري حين سبحت في المياه الصافية للبحر الأدرياتيكي، وتلك الاستراحة على الشاطئ تحت شمس المتوسط القوية بينما تغطي جسدي طبقة رقيقة من الملح.

وأبدا لن أنسى رائحة الأعشاب العطرة من المريمية والإيمورتيل والآس والغار وإكليل الجبل تملأ رئتي.

ويقصد الناس جزيرة لوشيني الواقعة في خليج كفارنير التابع لكرواتيا شمال البحر الأدرياتيكي منذ زمن طويل للاستشفاء.

ويعدّ خليج كفارنير بين أكثر بقاع البحر الأدرياتيكي اعتدالا، إذ تحجز سلسلة جبال أوتشكا عن الساحل وجزره رياح الشمال البارد، ليخلق بيئة مصغرة ذات خصائص مميزة يشار إليها اليوم بـ”بيئة كفارنير” نسبة للخليج.

وتتسم هذه البيئة بخصائص استشفاء طبيعية مع توفر 2600 ساعة شمس سنويا وجودة عالية للهواء وضغط مناسب فضلا عن رذاذ البحر بجزيئاته العالية من الملح مما يجعل الجزيرة الكرواتية بيئة ممتازة للاستشفاء.

في القرن التاسع عشر وصف عالم النباتات أمبروز خاراتشيتش الذي ينحدر من لوشيني، الجزيرة بأنها أصح بيئة في الإمبراطورية النمساوية-المجرية آنذاك، استنادا إلى موقعها وظروفها.

وفي عام 1889 أقرت بلدة أوباتيا المطلة على الخليج رسميا كمنتجع استشفاء ملكي بالإمبراطورية لخواصها العلاجية في التربة والمياه والجو.

وفي عام 1892 أعلنت سلطات الإمبراطورية بلدتي مالي وفيلي لوشيني بالجزيرة ضمن المنتجعات المناخية.

وغدت لوشيني تعرف بجزيرة الصحة والاستشفاء خاصة للمصابين بأمراض التنفس والحساسية.

تقول إيرينا دلاكا المؤرخة للجزيرة إن لوشيني “بيئة ممتازة للمصابين بعلل تنفسية لتوفّر الهواء النظيف بالرطوبة المناسبة ودرجة الحرارة المُثلى مع تشبُّعه بجزيئات ملح البحر والزيوت العطرية، مما يهدئ الشُعب الهوائية ويوسّعها ويذيب الإفرازات المخاطية ويساعد على طردها بالسعال وتطهير الرئتين والتنفس”.

وتضيف إيرينا: “يعود الاستشفاء من أمراض التنفس في الجزيرة لأمد طويل (منذ عام 1885) ومازال خبراء الجمعية الكرواتية لأمراض الجهاز التنفسي التابعة للرابطة الطبية الكرواتية يوصون بالعيش فيها”.

وفي الماضي اجتذبت لوشيني الزوار الملكيين ومنهم الدوق تشارلز ستيفان وهو من أكبر أثرياء أسرة الهابسبورغ وسليل للعائلة الإمبراطورية وكان بين أول من قصد الجزيرة عام 1885 لقضاء الشتاء.

وبعد الدوق تشارلز جاء أعضاء الأسرة والبلاط الإمبراطوري، والذين تقول إيرينا إنهم وجدوا في لوشيني “متنفسا لهم بعيدا عن الأعين والمراسم التي سئموها”.

وفي عام 1903 افتتح معهد كورانشتالت سيمونيتش في فيلي لوشيني وكان ضمن طليعة المعاهد الطبية بالبحر الأدرياتيكي التي استخدمت العلاج بمياه البحر.

تقول إيرينا: “الدراسات تشير إلى أن تركيبة الأملاح بالبحر الأدرياتيكي أعلى بما بين سبعة و14 في المئة من مياه البحار الأخرى لاحتواء المياه التي تنساب إليه على نسب عالية من الأملاح المعدنية”.

واستخدمت مياهه النقية عالية الملوحة في علاجات طبية شتى، وبحسب إيرينا: “استخدمت حمامات مياه البحر الساخنة والباردة فضلا عن حمامات الشمس والهواء، واليوم نعلم أن تركيب مياه البحر تشبه كثيرا بلازما دم البشر فضلا عن احتوائها على عدد من العناصر المهمة والكائنات الدقيقة”.

وتضيف إيرينا: “وفضلا عن تحسين التنفس والنقاهة، يقلل ماء البحر التوتر ويعالج أو يحسّن الكثير من أمراض الجلد والاضطرابات الهرمونية فضلا عن مساعدة مرضى الروماتيزم والتهاب المفاصل”. د

وتقول إيرينا إن المعهد، الذي استمر يعمل حتى تأميمه عام 1947، كان مقصدا للعامة كما النبلاء من أنحاء الإمبراطورية النمساوية-المجرية. وكان من مشاهير القاصدين له أسرة فون تراب (1933) التي استوحى قصتها فيلم “صوت الموسيقى”.

ولا يقتصر جمال لوشيني البكر على شواطئها؛ إذ توفر غابات الصنوبر القديمة والنباتات العطرية الأصلية بالبحر المتوسط بيئة من الأريج المنعش يتمتع بها المتجول والمتريض في رحاب أكثر من 250 كيلومترا من الدروب الطبيعية الوعرة بالجزيرة.

وقبل أكثر من قرن رصد خاراتشيتش نحو 1100 من أنواع النباتات و230 صنفا من الأعشاب الطبية التي تنمو في الجزيرة الجميلة والجزر الصغيرة القريبة منها وتقول إيرينا إن الكثير منها ما زال يستخدم في الطب الشعبي اليوم.

وتستخدم عشبة المريمية الدلماطية لعلاج أمراض الجهاز التنفسي وفي المطبخ المحلي.

وتقول ساندرا نيكوليتش صاحبة فكرة “بستان العطور الذكية”، المقام على مساحة نصف هكتار من الأعشاب الطبية المنتشرة بالجزيرة: “أيام جدتي كنا نحرق أوراق المريمية الجافة بالمدفأة لتحسين هواء الغرفة”.

وقديما استخدم الناس الإيمورتيل كمطهر لكافة الأغراض وطارد للحشرات. وتقول نيكوليتش إن النساء في لوشيني كن يجمعن عشبة الإيمورتيل ويجدن أنها تعيد لأيديهن نضارتها فأخذن يصنعن منها بلسما للبشرة؛ واليوم تدخل الإيمورتيل في العديد من مستحضرات العناية بالبشرة.

وتقول ساندرا: “أغلب الأعشاب الموجودة في لوشيني موجودة أيضا في جزر أخرى بالبحر الأدرياتيكي ولكن الناس يقولون إن أعشاب لوشيني هي الأطيب رائحة”.

واليوم يمكن للزائر التجول برفقة مرشدين في “بستان العطور الذكية” وقد أسسته نيكوليتش عام 2003.

والمتجول بتلك المحمية المفعمة بالألوان يجد راحة للنفس بسبب النباتات الزاهية وأريج عطورها والمشهد الخلاب لخليج فالداركي أحد أجمل خلجان الجزيرة.

كما يمكن للزائر تذوّق طعم أعشاب الجزيرة بأخذ جرعة من مشروب كحولي من الآس المركّز الغني بفيتامين سي والحديد والذي كما تقول ساندرا يهدّئ التوتر ويحسّن المزاج.

وبحسب الموروث الشعبي يساعد تجرُّع شراب العرقي المصنوع من أعشاب المنطقة في تحسين الهضم وتهدئة آلام العضلات وتطهير الجروح.

وتبيع ساندرا نوعا من البراندي الخاص بالجزيرة الذي يضم مكونات من 15 عشبا أصليا في توليفة “خاصة”، فضلا عن شاي لوشيني المغلي من المريمية والورد البري وأوراق الأوكالبتوس.

ويمكن للزائر التمتع بمنتجعات توفر العلاج بمستحضرات الأعشاب الطبيعية كمنتجع بوتيك هوتيل الهامبرا وفيلا أوغستا التاريخي بألوانه البنية والذهبية على مقربة من خليج تشيكات في بلدة مالي لوشيني.

وبمنتجع “كيوب سبا” في الفندق يوجد مسبح بمياه البحر الدافئة، ويوجد أيضا العديد من العلاجات بما تجود به الجزيرة من أعشاب، كجلسات تدليك باستخدام الزيوت الطبيعية المنتَجة في لوشيني وجزر خليج كفارنير.

ولعلاج التوتر وتهدئة الأعصاب وتقلبات المزاج يستخدم مزيج من زيوت البرتقال والبنفسج والنعناع الأساسية، ولعلاج الإرهاق واستعادة الحيوية هناك خلطة البنفسج والبرغموت والسرو والمريمية والآس.

وللاطلاع على النباتات المختلفة في الجزيرة يمكن لنزيل الفندق الاشتراك في ورشة لمدة ساعتين للروائح المختلفة يختار فيها النباتات التي يفضلها لتحضير زيوتها الطبيعية للاستخدام في التدليك بالكبائن بحدائق المنتجع، وأخذ مستحضر الجسم والوجه الطبيعي الخاص كتذكار. ولعلاج حرق الشمس هناك مستحضر الصبار من البساتين المحيطة.

ويقدم منتجع “كيوب سبا” علاج مستحضر ميرتا الطبيعي المصنوع من منتجات طبيعية مئة في المئة والمستقى من الأعشاب الطبية والزيوت الأساسية التي تشتهر بها لوشيني والجزر المحيطة.

ويعود اسم المستحضر لـ ميرتا لوزانتشيتش التي استوحت عطور الجزيرة ونبتاتها الطبية وتحضر منتجاتها في الغالب من الأعشاب المتوفرة محليا منها الإيمورتيل الداخل في كريم الإيمورتيل المحبب للوجه للتجاعيد واستعادة نضارة البشرة.

تقول لوزانتشيتش إن مستخلص الزيوت الأساسية من جذور وأوراق وزهور وبذور النباتات قد يفوق تركيزه 70 إلى 100 مرة النبات نفسه.

وتضيف أن “الزيوت الأساسية تبعث الراحة في النفس والبدن والروح، وهي خلاصة النبات وروحه في قارورة”.

وتتابع قائلة: “ورغم مرور السنين ما زلت أذكر الزيوت الطبيعية المستخدمة في التدليك في “كيوب سبا” وقد استنشقت رائحتها العلاجية وأنا أسترخي بين يدي خبير تدليك ماهر. واصطحبت معي إلى نيويورك بعضا من منتجات لوزانتشيتش، وحتى فرغت تلك القوارير كان العطر يأخذني المرة تلو الأخرى إلى تلك الجزيرة.

كريستين فوكوفيتش بي بي سي