فوق مسرح الشمال السوري الخاضع لآليات استانا، والمنطوي على معادلات معقدة وقابلة للانفجار في أي لحظة ,تحلّق الطائرات الأميركية من نوع “درونز” متجاوزة خطّ “منع التصادم” الذي رسمته واشنطن وروسيا لتحديد مناطق نفوذ كلٍّ منهما شرق وغرب نهر الفرات.
وعلى الرغم من أن الغارات الأميركية فوق منطقة خفض التصعيد في إدلب تستهدف قادة المتشددين في مسعى لحماية الأمن القومي للولايات المتحدة – حسب تصريحات مسؤولين أميركيين- إلا أن دلالات هذه الغارات قد تتعدّى هذا الجانب وصولاً إلى محاولة تكريس معادلة جديدة يكون للولايات المتحدة فيها كلمة مؤثرة في تحديد مصير المنطقة الممزقة بين طموحات دمشق ورغبة موسكو من جهة وأحلام “العثمانيين الجدد” في أنقرة من جهة ثانية.
واستهدفت الغارة الأخيرة للتحالف الدولي، يوم أمس الاثنين، اثنين من قادة تنظيم “حرّاس الدّين” هما المدرب سيّاف التونسي وزميله أبا عبد الرحمن المعروف بلقب سفينة التونسي الذي ارتكب في العام 2015 مجزرة قلب لوزة في جبل السماق بإدلب والتي راح ضحيتها العشرات من الموحدين الدروز، وكان حينها منتمياً إلى “جبهة النصرة” قبل أن ينشق عنها ويذهب إلى “جند الأقصى” ثم إلى “حراس الدين”.
وجاءت هذه الغارة استكمالاً لنهج أميركي جديد، بدأ في الصيف الماضي، لضرب قادة الفصائل المتشددة أمثال “حرّاس الدّين” و”أنصار التوحيد” وذلك بعد انقطاع دام حوالي سنتين ونيّف تناوبت قبله الطائرات الأميركية على استهداف قادة “هيئة تحرير الشام” من المقربين لزعيم تنظيم القاعدة كأبي الفرج المصري وأبي الخير المصري وغيرهما.
وبقدر ما تعبر الغارات الأميركية المتتالية عن إصرار واشنطن على ملاحقة رؤوس التشدد ممن يحتمل أن تكون لديهم طموحات لتنفيذ عمليات عابرة للبلدان قد تمس بالمصالح الأميركية أو مصالح حلفائها، بقدر ما من شأنها أن تزيد من إحراج الدول الثلاثة الضامنة لمسار أستانا، روسيا وتركيا وإيران، التي لم تستطع تسجيل اي نقطة لصالحها في استهداف قادة التنظيمات المتشددة برغم تواجدها الكثيف في محيط المنطقة.
وقد لا يقتصر الأمر على مجرد الإحراج، إذ أن تكريس واشنطن لمسار ملاحقة المتشددين وترسيخه كعنصر اساسي في معادلة المنطقة يمكن اعتباره بمثابة اختراق للتفاهمات الروسية – الأميركية حول تقاسم مناطق النفوذ بموجب اتفاق منع التصادم الساري منذ العام 2017.
وكانت موسكو قد اعتبرت أن الأجواء فوق مناطق خفض التصعيد في سوريا محظورة على طيران التحالف الدولي، وفي تصريحات للمبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف في شهر أيار (مايو) من العام 2017 قال فيها أنه : إنه يحظر على طيران التحالف الدولي بقيادة واشنطن العمل في أجواء مناطق وقف التصعيد منذ التوقيع على المذكرة الخاصة بإنشاء هذه المناطق.
وأوضح أن هذا الحظر ليس مسجلا في المذكرة، ولكن هذه المناطق مغلقة منذ الآن أمام طلعات التحالف الدولي. وأضاف إن الدول الثلاث الضامنة (روسيا وتركيا وإيران) ستتابع عن كثب عمليات التحالف الدولي فيما يخص التزامه بحظر العمل في أجواء مناطق وقف التصعيد. وشدد لافرنتييف قائلاً: “المذكرة لا تسمح بعمل الطيران الحربي (في أجواء المناطق) ولا سيما طيران التحالف الدولي. ومهما كان ذلك.. بإبلاغ مسبق أم دون إبلاغ، لقد تم إغلاق هذه المسألة”.
ومنذ ذلك التاريخ، التزمت واشنطن بعدم خرق “الأجواء المغلقة” من دون إمكان معرفة ما إذا كان وراء هذا الالتزام نوع من التفاهمات بين الأطراف أم أن واشنطن كانت تتصرف من باب المناورة واضعة ضامني أستانا أمام اختبار مدى قدرتها على محاربة التنظيمات المتشددة واصطياد قادتها.
عمليّاً، انتهى الالتزام الأميركي في شهر تموز (يوليو) العام الماضي عندما نفذت طائرات “درونز” أميركية أولى غاراتها ضد تنظيم “حراس الدين” في ريف حلب، أعقبها غارات استهدفت تجمعاً لقادة من “حراس الدين” و”أنصار التوحيد” في أواخر آب (اغسطس) من نفس العام.
ثم تكرس النهج الأميركي من خلال “عملية باريشا” في شهر تشرين أول (اكتوبر) التي وضعت نهاية لحياة زعيم تنظيم داعش أبي بكر البغدادي، ومنذ ذلك الحين تتالت الغارات الأميركية ونجحت في فرض نفسها كجزء من المشهد المعقد في الشمال السوري، حتى أن موسكو وأنقرة توقفتا عن انتقاد هذه الغارات، وهو ما عنى عمليّاً، أن “سياسة الأجواء المغلقة” لم تعد موجودة، وأن روسيا، بالذات، أصبحت مضطرة للتعايش مع التحليق المكثف لطائرات “الدرونز” الأميركية فوق منطقة ليست بعيدة عن قاعدة حميميم.
الاقتحام الأميركي لمعادلة ضامني أستانا فوق أجواء خفض التصعيد، ولو جرى من بوابة الأمن، فإن دلالاته السياسية تبدو فاقعة وعصية على الاخفاء. قد تكون الدلالة الأهم أن واشنطن تنظر إلى نفسها كلاعب استثنائي لا يخضع للقواعد التي يضعها اللاعبون الآخرون حتى لو كانوا من وزن روسيا. والدلالة الثانية أن مصير إدلب لا يحدد فقط بموجب تفاهمات ثلاثية بين ضامني أستانا، بل ينبغي أن يكون لواشنطن رأي في الموضوع.
وأخيراً أن العمليات “الجراحية” لتغيير ديناميكية تحوّل التنظيمات الجهادية لا يمكن إجراؤها إلا على يد مختصين أميركيين لديهم خبرة كافية في تحديد الأهداف التي من شأنها تغليب تيار جهادي على آخر وفق ما يناسب المصالح والسياسات الأميركية.
وانطلاقاً من النقطة الأخيرة، يمكن ملاحظة أن موجة الغارات الأميركية الأخيرة اقتصرت على التنظيمات التي تجاهر بتمسكها بالانتماء لتنظيم القاعدة العالمي، في حين بقيت “هيئة تحرير الشام”، برغم تصنيفها على قوائم الارهاب الأميركية والدولية، مستثناة من نطاق هذه الغارات.
وقد يكون السبب وراء هذا الاستثناء، أن واشنطن لا تمانع في إعطاء قيادة الهيئة فرصة من أجل إثبات جديتها في تغيير جلدها من “تنظيم جهادي” ذي بعد عالمي إلى فصيل محلي يقتصر نشاطه على محاربة النظام السوري من دون أن يشكل أي تهديد للمصالح الغربية.
وقد عبّر جيمس جيفري المبعوث الأميركي إلى سوريا عن هذا التوجه الأميركي في تصريحات صحافية صدرت عنه في شهر شباط (فبراير) الماضي قال فيها أن “هذه المجموعة (هيئة تحرير الشام) أعلنت عن نفسها، – ولم نقبل بهذا الادعاء بعد – بأنها تمثل مجموعة معارضة وطنية تضم مقاتلين وليس إرهابيين، كما أننا لم نشهد لهم مثلاً أي تهديدات على المستوى الدولي منذ زمن”.
ولا يخفى أن كلام جيفري يحمل في طياته أن واشنطن تدرس “ادّعاء الهيئة” ويمكن أن تقبل به إذا توافرت الشروط المناسبة، ما يعني أنها تعتبر “الهيئة” تحت فترة تجريب لذلك يتم استثناؤها من الغارات الأميركية.
النهار
اقرأ أيضا :ترامب: ناقشت اغتيال الرئيس السوري مع وزير الدفاع السابق