أطنان الأموال المخبأة فرصة من ذهب
لسنا في أحسن حال مطلقاً، فالحرب بسنواتها الطوال فعلت فعلها العميق في بنى الاقتصاد السوري، كما أرخت بأعباء ثقيلة في المضمار الاجتماعي..لذا إن كان من الواجب العودة إلى الدفاتر القديمة، فمن المهم أكثر، بل الملحّ تناول ” الدفاتر الجديدة” ، ففي هذه الأخيرة ما يستحق فتح الملف بلا تردد، لأن النتائج بالتأكيد مغرية لخوض التجربة، في هذا الزمن الصعب الذي يُشرعن ” المغامرات” كما أن يتطلب إجراءات غير تقليدية.
ملف “الأثرياء الجدد” ..وهي التسمية المناسبة – دونما تجريح – لتوصيف واقع طارئ، هو غير عادي، لكن ثمة مداولات مكثفة تجري همساً حول الموضوع، دون أي إعلان لنيّات من نوع ما باتجاه المعالجة الإيجابية..وبصراحة استثمار هذه الأموال أو الأخذ بيد حائزيها لاستثمارها، بما أنهم غير مؤهلين لجهة امتلاك المهارات الاستثمارية.
و أياَ كان وازع الطرح ، لا نملك إلّا أن نعترف بقدر غير قليل من الموضوعية التي تملي بحث هذا الملف بهدوء ، بعيداً عن نزعات التشفّي والقذف ، وهذه بالتأكيد ليست مهمة وسائل التواصل الاجتماعي غير المسؤولة ، ولا مخاتير الأحياء وجلسات “النميمة” في الأرياف البعيدة ، بل ثمة مسؤولية رسمية لا بد أن تضطلع بها الدولة ، لتخطيط مآل ثروات “الأثرياء الجدد والقدامى” على حدّ سواء ، فأموال أثرياء الحرب لا تختلف بمصادرها عن أموال أثرياء السلم والاستقرار ، و إن اختلفت الأدوات والوسائل والتوقيت..وهي نتاج تجاوزات على كلّ حال، بما أن الامتياز تجاوز والاستثناء كذلك الأمر، والحصرية والتهرب الضريبي وووإلخ.
وربما يكون من الحكمة ألّا نذهب بعيداً في خيارات المعالجة ، و نجنح باتجاه فكرة المساءلة والمحاسبة ، التي تبدو الأسهل طرحاً والأصعب تطبيقاً ، على الأقل في المدى المنظور، رغم أنها واجبة وضرورية من وجهة النظر القانونية والأخلاقية ، لكن براغماتية البعد الاقتصادي لمفهوم الثروة تفرض نفسها بقوة هنا ، في فضاء خصوصية الظرف الصعب ، وتأخذنا إلى ضرورة التفكير بمطارح استثمارية وتوظيفات مجدية لكل هذه الثروات ، والقاعدة الفقهية تؤكد أن “الضرورات تبيح المحظورات” ، وبمقاربة المعنى والدلالة لا يبدو مثل هذا الطرح استثنائياً أو غير واقعي في الشأن الذي نحن بصدده.
فالإصدار النقدي الكلّي هو ثروة ، مالكها الدولة أما حائزيها فهم أفراد ومؤسسات ، بالتالي الثري هو حائز وليس مالك ، وقد منع القانون السوري اكتناز المال في مخابئ مظلمة وحجبه عن الفعل الاستثماري ، فإما إيداعات مصرفية أو توظيفات ظاهرة ، ماخلا ذلك فهو مخالفة تستوجب المساءلة ، رغم أن الوقائع تؤكد أنّ أحداً لم يُسأل بسبب أمواله المخبأة في الوسادة أو “تحت البلاطة” كما درجت العادة لدينا نحن السوريين.
الآن بات في حوزة “أثريائنا” الجدد ، كتل نقدية كبيرة من الصعب تقدير حجمها ، وهي مخبأة لأسباب تتعلق بالخوف من المساءلة ، لكن السبب الأهم هو أنهم لا يجيدون استثمارها ، بالتالي توجهوا إلى حيث “الاستهلاك التعويضي” تحت وطأة ردّات الفعل ، وثمة وقائع جديرة بالمتابعة فعلاً ..قصور وفلل وسيارات فارهة ..وهذا ينطوي على ضياعات خطيرة في الفرص وهدر للأموال والثروات .
من الملحّ أن نضع له حداً ، ليس بطرق بوليسية بل عبر الإرشاد الاستثماري ، وعرض خيارات توظيف ذات بعد تنموي ، تزج هذه الأموال في ميدان التنمية الحقيقية ، وتحولها عن مسارات الترف والاستعراض التي تتوعد نسيجنا الاجتماعي بـ “رضوض طبقية” ومفارقات قد لا تكون نتائجها حميدة.
الحالة شبه طارئة تستوجب تحركاً منظماً وسريعاً ، ولعل المداخلة الناجعة على هذا الملف غير التقليدي تبدأ بعرض خيارات فرص استثمارية “دسمة” في ذات المناطق والمجتمعات التي ينتمي إليها حائزو الأموال الجدد ، و إلزامهم – نكرر إلزامهم – بضخ الأموال فيها ، وتشغيل العمالة المعطلة ، ثم تكليفهم ضريبياً و إخضاعهم لكامل منظومة الالتزامات التي يخضع لها أي مستثمر.
قد يستهجن بعضنا مثل هذا الطرح ، تحت عناوين مختلفة ليست غائبة عن ذهننا ، لكن دعونا نعمل بذهنية التاجر لا بعقلية “القديسين” ، لأن أدبيات الاقتصاد والتنمية لا تكترث كثيراً للدعاء والتوسل ، وقد علمتنا الدروس أن رجل الأعمال الناجح هو الذي يستنتج أن ناتج جمع 1 + 1 = 11 وليس إثنان.
لقد تجمّعت النسبة الأكبر من سيولة التمويل بالعجز لعدة سنوات سابقة، تجمعت في أيدي أفراد في الحقيقة، منهم منتجين صناعيين ..ومنهم تجار ..ومنهم من أسميناهم أثرياء جدداً..أي تراكمت كتل الإصدار النقدي السنوي في أيادٍ غير منضبطة، أي ليست في عهدة الحكومة ولا في عهدة عموم مواطن، بالتالي الموقف يبدو صعباً..إما استمرار حالة الانكماش أو إعادة الدفع بركام السيولة في أوصال الاقتصاد والسوق، لإعادة تدوير عجلة التنمية الفعلية..وهذا يتطلّب زج حائزي الثروات في الفعل الإنتاجي على الأرض..ولاسيما من لديهم أموال ويفتقرون إلى خبرة استثمارها.
هذا هو الحل لتجاوز مشكلة شحّ السيولة التي نعانيها حالياً، إذ ليس من المعقول الاستمرار بسياسات التمويل بالعجز، أو اللجوء إلى شهادات الإيداع وسندات الخزينة، لنرتب على الخزينة ” ديناً فوق دين” ..بما أن التمويل بالعجز هو دين داخلي أساساً، وإصدار أذونات أو سندات من صلب هذا الدّين هو دين آخر..وسنكون أمام متوالية.. تأخذنا باتجاه أزمة تشبه أزمة لبنان ” لا سمح الله”.
أموال الحائزين الجدد ، من مبلغ 10 أو 20 مليون ليرة وصاعداً، هي الخيار الأهم لإعادة إنعاش البلاد وفق أدبيات التنمية الأفقية المتوازنة.
فقط علينا أن نصوغ بنك فرص استثمارية ” وفق خصوصيات كل منطقة وميزاتها الاقتصادية” ثم الحوار مع حائزي الأموال ومساعدتهم لالتقاط هذه الفرص، وتحويلهم إلى حاملي لقب يُطربون له بكل تأكيد وهو ” بزن سمان” أو رجل أعمال..لديه مشروع أي أعمال وعمال .
وبهذا ننتج حالة تنموية اقتصادية واجتماعية في آن معاً.
الفكرة تحتاج إلى بعض المرونة في التعاطي معها..فنحن في ظروف لا يسمح بالكثير من المكابرة، ويتطلب مرونة غير تقليدية في تلبية الاستحقاقات الملحّة التي لم تعد تقبل التأجيل.
اقرأ أيضا :متى نستعيد مليارات الدولارات الضائعة والفرص المحجوبة مع الجار العراقي؟