لغز المدينة الهندية التي تسعى لحفر مليون بئر
ربما سيصعب على بعض زوار مدرسة “رينوكا” الثانوية، بجنوب شرقي مدينة بانغالور الهندية، أن يتوقعوا مصادفة بئر مياه داخلها. لكن التعرف على بعض المعلومات المتعلقة بالحي المكتظ بالسكان الذي توجد فيه هذه المدرسة، والقابع على أطراف بنغالور، قد يبدد دهشة هؤلاء.
فرغم أن هذه المدينة العصرية الضخمة سريعة النمو تشكل عاصمة للتكنولوجيا المتقدمة في الهند، ومع أن المنطقة التي تقبع فيها تلك المدرسة لا تختلف كثيرا في سماتها عن باقي أحياء بنغالور، إلا أن ذاك الجزء من المدينة يبدو كأنه جزيرة معزولة فيها. السبب في اختلاف هذا الحي عن باقي أنحاء المدينة هو أمر حيوي للغاية، ألا وهو افتقاره لشبكة أنابيب لمياه الشرب.
ولذا لجأ السكان إلى إحياء طريقة عتيقة في الحصول على المياه، تتمثل في حفر الآبار، بهدف ري الظمأ المتزايد في هذه المنطقة. ويشكل البئر المحفور بشكل يدوي داخل المدرسة جزءا من خطة واسعة النطاق لحفر مليون بئر في شتى أنحاء بنغالور. وقد تساعد هذه المهمة المفعمة بالتحديات وذات الطابع الملحمي على حماية المدينة الهندية من الضغوط الناجمة عن تبعات ظاهرة تغير المناخ.
المدينة الظمأى
لا يخفى على أحد أن بنغالور اكتسبت مكانتها كإحدى أسرع المدن نموا في القارة الآسيوية بأسرها، بثمن باهظ. فمياه النهر الأقرب لها، وهو نهر أركافاتي، لم تعد تكفي لتلبية احتياجات السكان منذ أمد بعيد. والآن، يشكل نهر كافيري شريان الحياة لها، إذ يمدها بقرابة 1450 مليون لتر من المياه يوميا. لكن المشكلة تتمثل في أن أقرب نقطة منه إلى المدينة تبعد عنها نحو مئة كيلومتر من جهة الجنوب.
وتشكل المياه الجوفية أحد البدائل الأخرى لإمداد السكان بهذا المورد المهم. وتضم المدينة بالفعل ما يقرب من 400 ألف مما يُعرف بـ”آبار السبر”، وهي ثقوب في الأرض أو في مواقع دفن النفايات تُستخدم من أجل الحصول على عينات من الطبقات الجيولوجية أو النفايات أو السوائل كالماء والنفط. وحُفِرَت هذه “الآبار” بترخيص من السلطات، لكن الكثير منها نضب، بسبب الإفراط في استخراج المياه منه.
وتسحب تلك “الآبار” مياهها من طبقات المياه الجوفية العميقة، التي يُحبس فيها الماء بين طبقات الصخور المتصدعة، على عمق 60 مترا تحت سطح الأرض. المشكلة هنا تتمثل في أن وصول المياه إلى طبقات على هذا العمق الكبير يتم ببطء، وبالتالي قد يستغرق امتلاء تلك الطبقات من جديد عدة سنوات، وهو أمر غير ملائم أو عملي لتلبية احتياجات مدينة تتسع بوتيرة متسارعة.
وتقول هيتا أونيكريشنان، الباحثة في معهد شيفيلد للدراسات الحضرية، التي تدرس تاريخ موارد المياه المتوافرة للسكان في بنغالور، إن تضاريس هذه المدينة “لا تساعد على أن تتوافر لها إمدادات كبيرة من المياه”.
من جهة أخرى، لا تعاني بنغالور على الإطلاق من نقص ما يهطل عليها من أمطار. فمتوسط كمية الأمطار التي تسقط عليها سنويا كبير بكل معنى الكلمة، إذ يصل إلى 972 ملليمترا في الفترة ما بين أبريل/نيسان ونوفمبر/تشرين الثاني. ويبلغ عدد الأيام الممطرة في كل عام نحو 60 يوما.
أين تذهب كل هذه المياه إذا؟ يمكننا العثور على إجابة لهذا السؤال في ثنايا دراسة أعدها باحثو مركز الدراسات البيئية في المعهد الهندي للعلوم. تشير الدراسة إلى أن ما شهدته بنغالور من عمليات رصف مكثفة للغاية لشوارعها وطرقها، في الفترة بين 1973 و2017، بما أوصل نسبة المناطق المرصوفة فيها إلى ما يُقدر بـ 93 في المئة من مساحتها الكلية، أدى إلى ألا تستفيد المدينة من مياه الأمطار التي تهطل عليها.
ويتبنى هذه الرؤية الخبير في مجال الحفاظ على المياه فيشوانات شريكانتايا، الذي يقود مبادرة غير هادفة للربح في مجال البيئة، تحمل اسم “صندوق بايم البيئي”. ويقول شريكانتايا، الذي تقود مبادرته حملة حفر مليون بئر في بنغالور، إن مياه الأمطار التي تنفذ إلى طبقات المياه الجوفية تتراوح في الظروف العادية ما بين ثلاثة في المئة وعشرة في المئة من إجمالي ما يهطل منها، لكن هذه النسبة تنعدم تماما إذا بدأت السلطات في البناء فوق التربة.
وفي هذه الحالة، لا يفضي هطول تلك الكمية الثمينة من مياه الأمطار على بنغالور إلى تغذية طبقات المياه الجوفية فيها، وإنما تجري هذه المياه أسفل المباني وتغمر الطرق غير المعبدة، وهو ما يقود لانسداد شبكة الصرف الصحي، وإغراق المناطق المنخفضة، وهي مشكلة يُتوقع أن تتفاقم خلال العقود المقبلة بفعل ظاهرة تغير المناخ.
المياه المذهلة
قبل سنوات قليلة، كانت المياه المستخرجة من “آبار السبر” تصل إلى مدرسة رينوكا على متن صهاريج، تأتيها عبر طرق مكتظة بالسيارات، قادمة من منطقتيْ بيلاندور أو إيبلور، على بعد نحو أربعة كيلومترات من هذه المؤسسة التعليمية. وكانت تلك الصهاريج تجلب ما يصل إلى ألف لتر من المياه مرة أو مرتين أسبوعيا.
لكن هذه العملية كانت مضجرة ومرهقة وبطيئة، كما أن إدارة المدرسة شككت في مدى نقاء المياه التي يتم الحصول عليها عبرها. ويعود ذلك إلى أن المياه الجوفية في الكثير من مناطق الحي الحضري في بنغالور تعاني من ارتفاع مستويات النترات ومن التلوث بمياه الصرف الصحي وبما يُعرف بـ “التلوث الصناعي”. بالإضافة إلى هذا، تعاني بحيرة كايكوندرلي الموجودة في المدينة من مشكلات ناجمة عن تلوث مياهها بمياه الصرف الصحي، وإلقاء النفايات فيها كذلك.
وهكذا، لم يعد أمام السكان سوى بديل واقعي واحد، متمثل في حفر الآبار. وقد سلكت إدارة مدرسة “رينوكا” هذا الطريق عام 2013، عندما استعانت بخدمات حفاري الآبار التقليديين، لكي يحفروا البئر العميق المفتوح، بعمق 14 قدما (أي قرابة 4.2 متر).
وفي بنغالور، يمثل إتقان حفر الآبار وصيانتها ومعالجة أي مشكلات تلحق بها حرفة متخصصة للغاية ومحفوفة بالمخاطر كذلك. ويتعلم من يحترفون هذه المهنة أساليبها من أقرانهم المهرة ممن هم أكبر منهم سنا، ويتناقلون التقنيات المستخدمة في هذا الشأن من جيل لآخر. وقد مارس شيوخ تلك الحرفة مهنتهم بمهارة، أدت إلى ألا يفقد أي منهم حياته أو حتى أي طرف من أطرافه، خلال حفره الآبار في أعماق الأرض، دون أن يكون مزودا سوى بالمعاول والمجارف.
وتختلف الآبار التي يتم حفرها حاليا في بنغالور عن “آبار السبر” التي تستنزف طبقات المياه الجوفية العميقة. فالآبار التي تُحفر الآن مفتوحة وقليلة العمق “وقابلة بشكل أكبر للامتلاء بالمياه”، وذلك لأنها تصل إلى طبقات مياه جوفية أقرب إلى سطح الأرض، يمكنها أن تمتلئ بمياه الأمطار بسرعة.
لكن مسألة حفر أي من هذه الآبار، ليست بالسهولة التي ربما تبدو عليها. وفي الوقت الحاضر، يستعين من يريدون أن تُحفر مثل هذه الآبار في أراضيهم بالخبراء في علم المياه الجوفية (الهيدروجيولوجيا)، كما يستفيدون من خدمات من يطبقون مبادئ نظام هندوسي تقليدي للهندسة المعمارية، يتم في إطاره المواءمة بين مبادئ التصميم وعناصر الطبيعة. ويفيد اتباع هذا النظام الهندسي العتيق في تحديد مواقع حفر الآبار المحتملة.
وبمجرد تحديد موقع الحفر، يستخدم الحفارون خيطا لقياس قطر الحلقات الإسمنتية، التي ستُستخدم لتبطين الجدران الترابية للبئر. وقبل البدء في الحفر، تُؤدى صلاة خاصة لربة الماء “غانغاما”.
وبينما يُسند لأحد أفراد فريق العمل مهمة الحفر نفسها، يتولى رفاقه إخراج الأتربة التي يتم تجريفها من البئر، بواسطة دلاء بلاستيكية. وإذا كانت التربة في منطقة الحفر رخوة، يتم إعداد شبكة معدنية تلائم مقاييس البئر، ووضعها بداخله لتقليص مخاطر انهيار جوانبه خلال عملية حفره. وتُزال هذه الشبكة بعد إتمام تلك العملية، وتُوضع الحلقات الإسمنتية بدلا منها.
وعندما تظهر في التربة التي تغطي قاع البئر مسامٌ تفيد بوجود جداول مائية، يعلم الحفارون أنهم أوشكوا على الوصول إلى بغيتهم، وأنهم باتوا على مشارف طبقة من المياه الجوفية الضحلة، التي تختزن في باطنها كميات من مياه الأمطار، على عمق يتراوح بين 10 أقدام ومئة قدم (3 أمتار إلى 30 مترا) تحت سطح الأرض. بعد ذلك، تبدأ المياه في التسرب إلى البئر الوليد. لكن ذلك لا يعني نهاية المطاف بالنسبة لعملية الحفر، التي تستمر لما يتراوح ما بين2.5 إلى 3 أمتار أخرى (8 – 10 أقدام)، وهو أمر شاق ومثير للضجر في آن واحد.
اللافت أن عملية حفر الآبار الآن لا تختلف كثيرا في تفاصيلها عما كانت عليه قبل أجيال، اللهم إلا في ما يتعلق بالمواد المستخدمة في تبطين البئر من الداخل، والتي باتت تتمثل الآن في الإسمنت لا الأحجار. فقبل مئة عام، كانت الكتل الحجرية تتراص على جوانب البئر من الداخل دون ملاط، لكي تسمح للماء بالتسرب عبر فجواتها إليه، قادمة من طبقة المياه الجوفية. الآن توضع في محلها حلقات إسمنتية سابقة الصب، تحتوي كل منها على أربع فجوات بقطر بوصة واحدة للفجوة، وذلك للسماح بوصول المياه.
وفي المعتاد، تستغرق عملية حفر البئر الذي يتراوح عمقه ما بين 9 و12 مترا (30 – 40 قدما) قرابة ثلاثة أيام، إذا تولاها فريق حفارين مؤلف من سبعة أو ثمانية أشخاص. وهكذا يتجمع الآباء والأبناء والأشقاء والأعمام وأبناء العمومة، لتشكيل مثل هذه الفرق، ويتقاسمون الأعباء والأرباح سواء بسواء.
ويتراوح إجمالي الربح الذي يدره حفر بئر ماء في الهند ما بين 30 ألف روبية و150 ألف روبية هندية (410 – 2000 دولار أمريكي)، وذلك بحسب عمق البئر. ويعني ذلك، أن كل مشارك في فريق الحفر يجني دخلا يصل في المتوسط إلى 1200 روبية (16.40 دولارا) يوميا، وهو ما يزيد بواقع الضعف على الأجر اليومي للعامل في المناطق الحضرية في الهند.
ويقول واحد من هؤلاء العمال، وهو من قرية في ضواحي بنغالور تضم 75 أسرة تعمل في هذا المجال، إن بوسعه ضمان نجاح أي عملية حفر يشارك فيها. ويؤكد أنه لا يحصل على أجره سوى عندما تتدفق المياه في البئر، مُضيفا: “لم يخب مسعاي في ذلك الأمر قبل ذلك قط”.
مليون بئر
ومنذ إتمام حفر بئر المياه في مدرسة رينوكا، يُضخ منها ما يعادل 1000 لتر من الماء يوميا على مرتين، وهو ما يكفي لتزويد المراحيض والحمامات وحدائق هذه المدرسة باحتياجاتها. ويمتلئ البئر مرة أخرى بالماء في غضون ساعتين إلى ثلاث ساعات، بفضل ما يتسرب إليه من مياه البحيرة الموجودة في بنغالور، تلك التي خضعت لعملية تطهير بيئية شاملة في عام 2009. كما يستفيد البئر من منظومة لتجميع مياه الأمطار توجد في الشرفة الخارجية للمدرسة. ويتطابق منسوب الماء في البئر مع نظيره في البحيرة، بحسب فصول السنة، إذ تعمل التربة الواقعة بينهما كمرشح طبيعي.
وتشكل مدرسة “رينوكا” إحدى المؤسسات الكثيرة في بنغالور التي تحولت لتبني أساليب إدارة المياه بطريقة مستدامة، وذلك من خلال التعاون مع “صندوق بايم البيئي”. ويقول شريكانتايا الخبير في الصندوق إنه بات في بنغالور بالفعل قرابة 10 آلاف بئر. لكن الطريق لا يزال طويلا لتحقيق هدف المليون بئر.
ويضيف بالقول إن من شأن الانتفاع بخدمات حفاري الآبار التقليديين في المدينة للوصول إلى هذه الغاية، تمكين المدينة من الاستفادة من كمية تتراوح ما بين 50 في المئة و60 في المئة من مياه الأمطار التي تهطل عليها. وسيفضي ذلك أيضا إلى تجنيب بنغالور أن تشهد فيضانات بفعل تراكم مياه هذه الأمطار. ويشير هذا الرجل إلى أن تقديراته تفيد بأن تحقيق هدف المليون بئر سيؤدي للحصول على 140 مليون لتر مياه من تلك المختزنة في طبقات المياه الجوفية قليلة العمق في المدينة الهندية.
وتلعب مهارات حفاري الآبار التقليديين دورا حاسما في هذا الصدد، ليس فقط بحكم قدرتهم على المشاركة فعليا في عمليات الحفر، ولكن كذلك في ضوء ما لديهم من خبرة ومعرفة بشأنها.
وفي هذا السياق، يقول شوبها رامشاندران، وهو خبير استشاري في شؤون المياه بصندوق بايم، إن هؤلاء الأشخاص، ممن شاركوا في رسم الخرائط الخاصة بتحديد مواقع طبقات المياه الجوفية في جنوب شرق بنغالور، أظهروا “وعيا شديدا بالآبار الموجودة بالفعل في هذا المكان، ونوعيات التربة هناك، وما إذا كانت فيها طبقات من الصخور، وغير ذلك من خصائص طبقات المياه الجوفية القائمة في تلك المنطقة”.
ويضيف رامشاندران، الذي يعمل بشكل وثيق مع حفاري الآبار، قائلا إن “المعرفة بتاريخ الآبار المفتوحة في المدينة، ربما لا تُقدر بثمن”.
وتتميز عملية الحصول على المياه بهذه الطريقة بأنها جديرة بالثقة من جهة وفي المتناول من حيث التكاليف من جهة أخرى. ففي الآبار المفتوحة، لا يحتاج المرء لرفع المياه سوى ستة أمتار فقط (20 قدما) كي تصل إلى سطح الأرض. في المقابل، إذا أرادت بنغالور الانتفاع بمياه نهر كافيري، فسيتعين رفع مياه هذا النهر لمسافة تقدر بـ 300 متر (984 قدما). ونتيجة لذلك، لا يكلف الحصول على الماء من الآبار المفتوحة سوى ما يوازي نحو واحد في المئة من تكاليف جلب المياه من نهر كافيري.
ويشكل حفارو الآبار، ممن يستخدمون الأساليب التقليدية في هذا الصدد، محور التحول الذي تشهده بنغالور باتجاه الحصول على المياه بتلك الطريقة العتيقة. وفي الوقت الراهن، يتزايد الطلب على خدمات هؤلاء العمال، فالجهات المسؤولة عن إمدادات المياه والصرف الصحي في بنغالور تُلزم جميع السكان دون استثناء بتجهيز منازلهم بإنشاءات من شأنها تجميع مياه الأمطار وإعادة تغذية طبقات المياه الجوفية بالمياه. ويشير ذلك إلى إمكانية أن يتوافر العمل بشكل أكبر وأكثر انتظاما لحفاري الآبار التقليديين في المرحلة المقبلة. ويمثل أيضا أنباء واعدة في ما يتعلق بتحقيق حلم شريكانتايا بحفر مليون بئر في بنغالور.
ويقول الرجل في هذا السياق إن الطريقة التقليدية الفريدة، التي تُتبع لحفر الآبار في هذه المدينة، يمكن أن تخفف من مشكلة شح المياه التي يعاني منها سكانها. ووفقا لما يؤكده شريكانتايا، بمقدور المناطق التي تنعم بطبقات مياه جوفية قليلة العمق في بنغالور أن توجد لنفسها “نهرا يجري تحت سطح الأرض فيها” بمساعدة حفاري الآبار التقليديين، بدلا من أن تضطر لتكبد عناء جلب مياه نهر مثل كافيري، إلى أحياء المدينة.
راميا كوشيك
بي بي سي